«إذا كانت الشعبوية معناها الاستماع إلى حاجات الناس فنحن نتبناها «كانت هذه أولى كلمات جوزيبى كونتى رئيس الوزراء الإيطالى الجديد بعد أن نالت حكومته ثقة البرلمان الايطالي، مدافعا بذلك عن برنامج أول حكومة شعبوية فى بلد مؤسس للاتحاد الأوروبي، الذى وجد نفسه فجأة على رأس واحدة من أكبر اقتصاديات منطقة اليورو، ليحمل بذلك إرثا ثقيلا من القضايا الشائكة التى تركها له سلفه باولو جنتيلونى . وكان القدر قد لعب دوره فى حياة كونتى الذى عرف عنه عدم اهتمامه بالسياسة حين توجهت إليه الأنظار بعد أن تم تكليفه بتشكيل الحكومة الإيطالية الجديدة. و يمثل كونتى 54 عاما نموذجا للطبقة الإيطالية المثقفة، فهو درس القانون فى جامعة لاسابينزا بروما وتخرج فيها عام 1988، ثم بدأ مسيرته الأكاديمية حلال تسعينيات القرن الماضى حيث قام بالتدريس فى جامعة روما، ثم التحق بالسوربون عام 2000 لاستكمال مشواره العلمي، ليعود بعدها ليزاول مهنة التدريس بجامعة فلورنسا، ويشهد الكثيرون لكونتى بأنه محام ناجح وقانونى بارع، ولديه عشرات المؤلفات العلمية فى مجال الفقه القانوني. ويعد كونتى أول شخص يتولى رئاسة الوزراء دون أن يشغل أى منصب حكومى أو إدارى سابق منذ أن تولى سيلفو بيرلسكونى المنصب عام 1994، وهو الأمر الذى أثار العديد من المخاوف بشأن قدراته على تولى هذه المهمة ،خاصة وأن النخبة السياسية تعيب عليه قلة خبرته التى تؤهله للنهوض بالبلاد التى تمر بحالة من التعثر الاقتصادي. وحول ذلك يقول لويجى دى مايوو رئيس حركة «خمس نجوم» عن كونتى المتقارب فكريا وسياسيا مع الحركة: «إنه سيكون رئيس حكومة سياسية، وأقول لمن يدّعون أنهم لم ينتخبونه بأنه كان فى فريقى الذى صوت له 11 مليون إيطالي». أما كونتى فقد صرح من جانبه بعد أن نالت حكومته ثقة البرلمان الايطالى بأنه واع تماما للمسئوليات الملقاة عليه، كما قال إنه ينوى خفض الدين العام الإيطالى الذى يعد الأكبر فى منطقة اليورو بعد اليونان، ولكن ليس بإجراءات التقشف حيث يبلغ الدين الإيطالى المتراكم نحو 130 % من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد، علاوة على ذلك حاول طمأنة شركاء إيطاليا فى الإتحاد الأوروبى مؤكدا انتماء بلاده الدائم إلى أوروبا. وكان قد فقد سبق تشكيل الحكومة الجديدة العديد من العوائق فى هذا البلد المعتاد على الأزمات السياسية حين واجه كونتى اختبارا صعبا بعد أن وقع عليه الاختيار لتشكيل الحكومة، وذلك بعد أن قدم أسماء أعضائها إلى الرئيس الإيطالى «سيرجيو مارتايلا» كى يدعو البرلمان المنتخب إلى جلسة الاقتراع لمنحهم الثقة. غير أن مارتايلا أعترض على المرشح لتولى وزارة المالية، باعتباره من اشد المناهضين للإتحاد الأوروبي، إلا أن كونتى رفض هذا الاعتراض معلنا تخليه عن تشكيل الحكومة .وبالرغم من ذلك لم يتراجع الرئيس الايطالى عن موقفه بل قام بتكليف كاولو كاتاريلى بتشكيل حكومة تسيير أعمال إلى حين إجراء انتخابات برلمانية جديدة، وهو الأمر الذى جعل كونتى يتخلى عن مرشحه لوزارة المالية وتعيينه بدلا من ذلك وزيرا للشئون الأوروبية ليصبح بذلك ممثل إيطاليا فى بروكسل. كانت الانتخابات التى أجريت فى مارس الماضى قد أسفرت عن حصول حزبين إيطاليين شهيرين لهما تاريخ كبير من العداء تجاه الإتحاد الأوروبى على الأغلبية البرلمانية، وهما حزب رابطة الشمال وحركة خمس نجوم، وذلك بعدما خاضا السباق الانتخابى من خلال تقديمهما وعودا بحملة شاملة لمحاربة الهجرة غير الشرعية والعمل على خروج إيطاليا من منطقة اليورو، وهو ما ساعدهما فى الفوز، غير أن هذا الأمر تسبب فى توتر الأسواق وإزعاج أوروبا وإثارة مخاوف من أن سقوط الإتحاد الأوروبى قد يأتى من داخل قلب أوروبا الغربية. وبالرغم من محاولة الشعبويين تهدئة المخاوف التى أثيرت بشأنهم سواء فى إيطاليا أو الإتحاد الأوروبي، من خلال إنكارهم أى نوع من العداء لمنطقة اليورو، فإن المعارضة لها رأى أخر، حيث يقول زعيم الحزب الديمقراطى المعارض موريزيو مارتينا: «لدى الحكومة الشعبوية واليمينية برنامج خطير على البلاد». كما يبرر الاقتصاديون أيضا مخاوفهم بأنه فى حالة خروج إيطاليا، رابع أكبر اقتصاد فى الإتحاد الأوروبي، من منطقة اليورو فإنها ستتسبب فى أضرارا مالية كبيرة بالبلاد، علاوة على إضرارها بالاستقرار الاقتصادى للقارة. وكشف استطلاع للرأى نشرته صحيفة «لاريبوبليكا» أن 60 % من الايطاليين يؤيدون الحكومة الجديدة فى حين يتمنى 25 % فشلها وإعادة الانتخابات مرة أخرى، وتناولت الصحافة الإيطالية أيضا خلال الأيام الأخيرة الاقتراحات الأساسية للشعبويين محذرة من أن الوعود التى أعلنوا عنها قد تبلغ تكلفتها عشرات المليارات من اليورو. وفى مواجهة هذه الحالة من الجدل يعول الكثير من الخبراء على قدرة كونتى على توظيف مهارته وخبرته التكنوقراطية التى أكتسبها حين تولى العديد من المناصب ومن بينها عضويته بكلية المحكمين الماليين الإيطالية، ومجلس القضاء الإداري، واللجنة العلمية المؤسسة للتوثيق الإيطالية. غير أن مشكلة كونتى ليست فى عدم خبرته السياسية وحسب بل فى احتمال سعى زعيمى حركة «خمس نجوم» وحزب «الرابطة» اللذين رشحاه لرئاسة الوزراء لتقييد حركته وضمان التزامه بما تم الاتفاق عليه فى البرنامج الحكومى الذى يتضمن المطالبة برفع العقوبات المفروضة على روسيا وعودتها مرة أخرى إلى مجموعة السبع الكبار، ومحاربة الهجرة غير الشرعية وإعادة النظر فى الاستمرار فى الإتحاد الأوروبي، وبذلك سيكون دور كونتى الفعلى هو تنفيذ هذا البرنامج مما سيجعله رئيس وزراء ذا «سيادة منقوصة»، وهو الأمر الذى يضعه فى اختبار صعب.. ووحدها فقط المرحلة المقبلة التى سوف تجيب على ذلك.