وردت أحاديث نبوية صحيحة بفضل تلاوة القرآن الكريم عموما، وفضل بعض السور خصوصاً، مما يعين على مواجهة متاعب الحياة، وينير للمسلم طريقا مشرقا إلى السعادة، لذا نتحدث في هذا المقال عن فضل أول ثلاث سور من القرآن، بحسب ترتيب المصحف. أول تلك السور وأعظمها: "أم القرآن".. "أم الكتاب".. "السبع المثاني والقرآن العظيم"، وكلها أسماء لسورة "الفاتحة" أو "فاتحة الكتاب"، التي نزلت في مكة، وتتضمن اسم الله الأعظم، وتلخص ما جاء في القرآن، وتُعد قراءتها أعظم عمل للعبد في حياته، إذ تحدد ما يريده ربه منه، وبالتالي فثواب قراءتها عظيم. روى البخاري أن رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لأبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "تُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا"؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: "كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ"؟ قَالَ: فَقَرَأَ أُمَّ القُرْآنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ". قال العلماء: "تضمنت "الفاتحة" أعظم دعاء بأعظم مطلوب، وهو العبادة، علاوة على طلب الهداية للعمل المقبول". عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، قَالَ: أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". (رواه مسلم). وعلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الحديث فقال: "إذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله ونصف دعاء يدعو به لنفسه، وتأمل أن الذي علمه هذا الدعاء هو الله تبارك وتعالى، وأمره أن يدعو به ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء، إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب.. تبين ماذا أضاع كثير من الناس". وأضاف: "تأملت أنفع الدعاء فوجدته طلب العون من الله على طاعته، ثم وجدته في الفاتحة في "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". (الفاتحة: 5) وقال ابن القيم: "لما كان سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب؛ علَّم الله عباده كيفية سؤاله فأمرهم بأن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان لمطلبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته، وعبوديته، وهما وسيلتان لا يكاد يُرد معهما دعاء". السورة الثانية هي سورة "البقرة"، التي تتلو "الفاتحة" في ترتيب المصحف، قد نزلت في المدينة، ومن فضلها أن الشيطان يفر من البيت الذي تُقرأ فيه، كما أنها تُعتبر سَنام القرآن، وأعلاه. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا وَسَنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ". (حسنه الألباني في "الصحيحة"). وإنما خُصَّت سورة "البقرة" بذلك، لطولها، وكثرة أسماء الله والأحكام فيها. فقد أحصوا فيها "ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر". وفي السورة آية "الكرسي" (البقرة:255)، وهي أعظم آية في القرآن، وقد اشتملت على عشر صفات لله، عز وجل، وقد أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأن نقرأها عند النوم كل ليلة. عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟". قُلْتُ: "الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: "وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ". (رواه مسلم). وعَنْ أبِي هريرة، رضيَ الله عنه، قالَ: وكلني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يَحْثو منَ الطعام، فأخذته فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقَصَّ الحديث، فقال: إذا أويتَ إلى فراشِكَ، فاقْرَأ آيةَ الكُرْسي، لن يزال معكَ منَ الله حافِظ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ حتى تصبحَ، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَكَ وهُوَ كَذُوب، ذاكَ شَيْطان". (رواه البخاري). ويُندب للمرء أن يقرأ "آية الكرسي" بعد كل صلاة مكتوبة، لما في ذلك من الفضل. فعن أبي أمامة الباهلي، رضيَ الله عنه، قال: "قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ". (صححه الألباني في "صحيح الجامع"). ولخواتيم سورة "البقرة" أيضا فضل عظيم، فعن أبي مسعود، رضيَ الله عنه، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "مَن قَرَأ بالآيتينِ مِن آخر سورة البقرةِ في ليلة كَفَتاه". (متفق عليه). قال المناوي: "أي: كفتاه من شر الشيطان أو الثقلين أو الآفات". وقيل: أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ نَقِيضاً مِنْ فَوْقِهِ (أي صوتا كصوت الباب إذا فتح)، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلا اليَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلا أُعْطِيتَهُ" (رواه مسلم). وتتلو سورة "البقرة" في ترتيب المصحف سورة "آل عمران"، التي نزلت في المدينة أيضا، وقد سمَّاهما الرسول، صلى الله عليه وسلم، معا: "الزَّهْرَاوينِ"؛ نظرا لنورهما؛ وهدايتهما؛ وعظيم أجرهما. (صحيح مسلم بشرح النووي)، إذ أخبر، صلى الله عليه وسلم، بأنهما تظللان صاحبهما يوم القيامة، وتحاجان عنه. عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ. اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ (سحابتان كثيفتان)، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ (جماعتان من طير باسط أجنحته)، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا (تدافعان عنهم بالحجة). اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ (أي: المواظبةُ على تلاوتها والعملُ بها بركة، أي: زيادة ونماء)، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ (أي: لا يستطيع السحرة اختراق تحصينها لقارئها). (رواه مسلم). والأمر هكذا، كان الصحابة، رضي الله عنهم، يُجلون من يحفظ البقرة وآل عمران، ويعتبرونه جديرا بالتوقير والإعظام، ويرون أن معه قرآنا كثيرا. عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا". (يعني: عظم قدره). ولعظم خواتيم سورة "آل عمران" ورد الحديث في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ (أي: قام من النوم)، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ (يتفكر في خلق الله)، فَقَالَ: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (آل عمران: 190)، وفي رواية للبخاري: "فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ "آلِ عِمْرَانَ" حَتَّى خَتَمَ". قال العلماء: "في هذه الآيات من عجائب الخلق، ما تعجب له العقول، لذا قال تعالى: "لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" أي: لأرباب العقول السليمة". وأضافوا أنه "في تلاوته، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لهذه الآيات، بعد استيقاظه ليلا، تعليم للأمة عبادة التفكر، التي أمر بها في كثير من آيات القرآن؛ وتخصيص ذلك بالليل نظرا لسكونه، وخلو القلب عن الشواغل، وظهور آيات السماء التي لا تظهر إلا ليلا". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;