نحن أمام «جبرتى» معاصر، تلبَّس قلمه الوصف، وقد ظهرت مهاراته ككاتب وصحفى فى كتابه الذى صدر مؤخراً مع مطلع عام 2018 «كيرياليسون .. فى محبة الأقباط». ولم يكن الكتاب مغازلة من كاتب مصرى «مسلم» للمصريين الأقباط «المسيحيين» كما قد يبدو للبعض، فقد تابعته ثلاثاً، حين كان مضمونه ينشر مقالات متفرقات بين مجلة المصور وجريدة المصرى اليوم، وحين تفضل الكاتب فأرسل لى غالبية فصوله قبل أن يضمها كتاب، استطلاعاً للرأى فيما يأتى متعلقاً بالشأن العقيدى والفكرى القبطي، وحين صدر كتاباً مكتملاً، وفى كل مرة كان المذاق مختلفاً، لكن يبقى للكتاب تصدُره وتميزه لاكتمال الرؤية وتواصل السرد وتلاحق الأحداث، وترابطها، وإمكانية العودة إليه كمرجع وثائقى وتحليلى لفترة من أخطر الفترات التى عبرت على مصر الوطن وليس الأقباط فقط. يرصد الكتاب الفضاء المجتمعى والسياسى قبيل 2010 وما بعدها، وهى الفترة التى شهدت احداثاً جساماً كانت مصر فيها تمر بتغيرات متلاحقة تشكل غلياناً متصاعداً وضعها على صفيح ساخن، حتى تجمعت ارادات الغضب على تباينها لتنفجر فى 25 يناير 2011 فى وجه سلطة شاخت على مقاعدها بحسب الوصف الذى نحته الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكانت الارتباكات عنوان المرحلة، فبينما كان الشباب الثائر القادم من ثورة الاتصالات والسموات المفتوحة، يعيش تجليات الظاهرة الثورية، كانت الجماعات الراديكالية المنظمة ترتب أوراقها لاختطاف الثورة، وقد ملكت خبرات العمل السرى تحت الأرض منذ تأسيسها عام 1928 وتصدير نفسها باعتبارها حاملة لواء الفضيلة فى مواجهة فساد استشرى وملك مفاصل المجتمع والدولاب السياسى مدعوماً بموروث بيروقراطى يشكل ويدعم البيئة الحاضنة للفساد. يمسك الكاتب بخيط الأقباط، الشارع والكنيسة، ويستدعى الجذور ويربطها باللحظة المعيشة، ويستخرج قراءات تفكك الكثير من الأحداث التى حاقت بهم، ويجد فى ثقافتهم التى تحملها صلواتهم اليومية مفتاحاً للولوج الى حقل ألغام اشكاليات الأقباط مع أنظمة الحكم، ويصدِّرها مدخلاً افتتاحياً «كيرياليسون» القبطية اليونانية التى تعنى عربياً «يارب ارحم»، ثم ينطلق منها إلى »محبة الأقباط« ذلك الموروث الشعبى الذى ينساب مع مجرى النهر الخالد ليحفر فى وجدان المصريين مساراً بعمق الزمن وسماحة وطيبة الأرض السوداء «كيمى»، فى مواجهة عبوس الذهنية المتصحرة التى صارت عنواناً لتلك الجماعة وما تفرع عنها عبر عقود ممتدة. جاء الكتاب لينطلق من «محبة الأقباط» إلى «محنة الوطن» بفعل هذه الجماعة وما تنفثه من سموم فى جسد الوطن، تحولت الى سياسات عندما دانت لها سلطة حكم البلاد فى لحظة مازالت بحاجة الى تنقيب وتفسير لفك ملابساتها. لا يغازل الكاتب عاطفة الأقباط ببكائية ممتدة، لكنه يطرح اسئلة وجودية : لماذا يدفع الأقباط الثمن كل مرة؟، بل وتصرخ سطوره بوضوح: «يسعد الأقباط حقاً عندما يُمكَّنون من الصلاة فى كنائسهم جميعاً وتشتد قبضة الدولة على المتنطعين الذين يقطعون عليهم الطريق الى المذبح ... » «يسعد الأقباط حقاً إذا شعروا بالمواطنة الكاملة فى وطنهم، دون تمييز أو إقصاء، وألا يُحكِّم فيهم جاهل مصطلحات موروثة اشتقت اشتقاقاً من تراث يكره الأقباط وينعتهم بما لا يحبون....» «يسعد الأقباط حقاً فى وطنهم إذا تعاملت الدولة مع مواطنيها على أساس المواطنة، لا تتركهم وتتحدث مع الكنيسة فحسب، وألا تخلى مساحات الدولة ومسئوليتها لتحتلها الكنيسة، وأن تنفتح على المجتمع المسيحى المدنى باعتباره جزءاً لا يتجزأ من المجتمع المصري.» ويغوص الكاتب فى أحراش ومستنقعات «سنة حكم الإخوان» والتى ترجمت كل توجهاتهم بالتحول بمصر من وطن له وزنه وتراثه وتاريخه إلى إمارة فى أمة تعيد إحياء حلم الخلافة الأثير والمفارق لحركة التاريخ، ويأتى بالجذور الفكرية لهذا والتى صاغها منظرو الجماعة، والذين يزعمون الآن انفصالهم عنها وانقلابهم عليها ويعلنون فى تنويعة على «التقية» تحولهم الى الفكر المدنى الليبرالى، ولهم مع الوطن والأقباط شجون تحملها السيوف. ويكشف الكاتب عن الدور الذى يلعبه بعض الاتجاهات الدينية فى الحيلولة دون «مواطنة» الأقباط فى الشارع وفى البرلمان. ويستعرض ما يعانيه أقباط المنيا جراء هذه المواقف المتعنتة ويفند ما يستند إليه أصحابها من أسانيد يزعمون أنها شرعية ويستعين فى ذلك بما صدر عن دار الإفتاء. ولا يتوقف الكاتب بامتداد كتابه وسطوره عن التأكيد عبر «فقه الواقع» الذى يكتبه المصريون على وحدة التراب الوطنى ووحدة المصير، سواء عند القمة بين قداسة البابا وفضيلة الإمام شيخ الجامع الأزهر، أو بين الناس وبعضهم، ودور المرأة المصرية فى تأكيد هذا الأمر، وينتصر للدعوات التى تطالب بإلغاء خانة الديانة، وتلك التى تطالب بالشفافية فى إعلان عدد المسيحيين فى مصر خاصة فى مفهوم المواطنة الذى لا يربط الحقوق بالعدد والنسبة العددية لفئة قياساً على التعداد العام. والدستور المصرى يؤكد فى مادته (53) «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة، أو المستوى الإجتماعى أو الإنتماء السياسى أو الجغرافى أو لأى سبب آخر.» «كتاب : كيرياليسون ... فى محبة الأقباط» يؤسس لحوار موضوعى لحساب الوطن. لمزيد من مقالات كمال زاخر