يبدو لافتا للنظر عودة ازدهار دراما المرأة فى مصر فى الآونة الأخيرة، خاصة أنها أقدمت على طرح مواضيع غير نمطية، وتطرقت إلى قضايا شديدة الخصوصية، لم تكن الدراما تمنحها مساحة كبيرة من الجرأة، فعلى الرغم من أن أعمالاً درامية كثيرة تناولت مأزق العيش فى الريف و الأحياء الشعبية المصرية و العشوائيات، فإن الدراما لم تتوغل عميقاً فى تلك المناطق ولم تتمكن من القبض على روح الحياة فيها على نحو ينجح فى إضاءة جوانب من رؤى وأحلام بل يوميات ناسها وطرق تفكيرهم، ولعلنا نلحظ أن الدراما المصرية الجديدة قطعت خطوات كبرى على طريق التغيير واستلهام قضايا الفئات الشعبية، مثلما حدث مؤخرا فى مسلسل «ولاد تسعة» لمؤلفه «فداء الشندويلى» ومخرجه أحمد شفيق، الذى لفت الأنظار إليه بشدة مع بداية عرض الحلقات الأولى منه على شاشة إحدى القنوات الفضائية، بعدما أثار عددا من القضايا والظواهر الشائكة أو المثيرة للجدل فى مصر ، حيث يتناول المسلسل حياة أربع «خادمات» ومعاناتهن، ونظرة المجتمع لهن، وليس هذا فحسب، بل يفجر المُسلسل قضية تأجير الأرحام لمساعدة غير القادرين على الإنجاب، وزواج القاصرات، وزواج المتعة من الأثرياء، ويذهب المسلسل لإبراز تجارة الفتيات الفقيرات، والمشكلات الناجمة عنها، وكذلك قضية الإرث والمشكلات بين الأشقاء عليه. كثيراً ما يتساءل الجمهور عن نسبة الخيال فى عمل درامى فى مقابل ما يرجحونه من أن الواقع الدرامى لم يتطابق مع ما يعرفه، وبمعنى آخر لا يذهب الرأى هنا إلى ضرورة مطابقة الأعمال الدرامية الاجتماعية لما هو مألوف وسائد، بل بتوظيف معرفة تضيف لأسئلة المتلقى على اختلاف مستويات التلقى، فالواقع الاجتماعى فى الحيّز الدرامى، هو واقع افتراضى، لكنه يشى وربما يحاكى ليبنى منظوراً مختلفاً لإشكاليات وتناقضات، بما يعنيه من انتباه لشرط إنسانى فى واقع متغير، وقوفاً على ما يعنيه تأسيس «اللحظة الدرامية» التى تنفتح على إبداع الثقافة الدرامية وإبداع خصوصيتها، ومن هنا أسس «فداء الشندويلى» لتلك اللحظة الدرامية التى أبدع فى خصوصيتها على نحو مغاير فى تناوله عدة قضايا شائكة فى نسيجه الدرامى «ولاد تسعة» مراعيا أننا نعيش ضمن مجتمع «له خصوصية» ونحرص على أن يكون العمل موجهاً للأسرة بالمقام الأول والأخير، لكنه كان حريصا على ألا يصور الواقع كما هو وإنما نستلهمه، وليس معنى ذلك أننا نجمّله، ولكن هناك صيغة فنية تتلاءم مع تركيبة مجتمعنا بحيث لا تخدش الحياء ولا تسيء كما يحدث فى الكثير من الأعمال. هناك كاتب يكتب كيف يجب أن تكون الحياة؟، بينما هناك كاتب آخر يقدم الحياة ولا يتدخل، و هناك كاتب آخر يتدخل ويحدد الشخصيات ولا يجعل لديها حرية الحركة بما تريده وتحلم به وتطمح له، والنوع الأخير هو ذلك الذى ينتمى إليه «الشندويلى» فى مسلسله «ولاد تسعة»، والذى قدم عبر شخصياته المرسومة بعناية ودقة فائقة عملا دراميا ينتمى إلى نوع الجرأة الاجتماعية التى لا تعتمد الفجاجة، أو تلك التى تُخاطب غريزة المتفرج وتشكل ابتزازاً لقلة الوعى والمعرفة والثقافة لديه، بل تكمن الجرأة الحقيقية فى تناوله للأفكار والقضايا الإشكالية بإطار صادق وبملامستها المشكلات الحقيقية فى حياتنا، ومن ثم تكمن الجرأة هنا فى كيفية توظيف هذه الحالة لصالح الدراما، وكيف يمكن معالجة قضايا المجتمع وتقديم البديل أو الحلول لعلاج الواقع، وتسليط الضوء على الأسباب التى أدت لهذه النتائج ، وذلك دون خدش الحياء العام. المسلسل الذى نحن بصدده تبدأ أحداثة قوية من تتر المقدمة الذى أدته ببراعة المطربة «بوسى» وهو فى الواقع يفتح آفاقا رحبة نحو سير الأحداث بنعومة على جناح أداء عذب من جانب كل أبطال العمل وعلى رأسهم «نيكول سابا» فى ذهابها نحو مناطق جديدة من النضج الفنى عبر تجسيد مختلف، حين أدركت بفطرتها أن حب الشخصية فى العمل من جانب الممثل يحقق - التقمص أو الاندماج - بين نفس الممثل والشخصية التى يمثلها، وهو ما كان يقودها بالضرورة إلى التمييز بين ماهو عرضى غير مهم، وبين ما يشكل جوهر الإنسان ذاته، تماما كما وضح فى أدائها لشخصيتى «نهى ويارا»، إذ أكدت من خلال هذا الأداء أن الشخصيات ليست مجرد كيان فيزيقى ملموس ومرئى، بل هى استجابات متصلة ومتتابعة لحالات وجدانية تمر بها، و»نيكول» من جانبها اتخذت من تلك الحالات الوجدانية التى أدتها بين الحين والآخر نقاط انطلاق لأداء الشخصيتين، ما جعلها تستطيع أن تتخيل وتتصور وتتقمص حالات وجدانية متكررة ومتعددة، الأمر الذى جعلها أن تلم بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية، حتى تمكنت من القيام بدوريها بشكل جيد، وأن تكون قادرة على التعبير عن هذه العناصر حتى يتم للمشاهدين فهمها على نحو صحيح، ولعله يبدو ملحوظا أيضا فى أدائها أن الصوت والجسد كانا فى حالة صفاء وتركيز ويقظة، تحققت لهما الحرية الكاملة فى التعبير والتخلص من الجهد العضلى بقدر الإمكان، فنما الشعور الداخلى وعبر عن نفسه بالصوت والجسد معا وإيقاعاته وألفاظه، وبكلمات خارجة من بين الشفتين بكل ما يعتمل داخل الشخصية من انفعالات وأفكار، فكان الشعور الداخلى متوحدا مع الحركة الخارجية وممتزجا معا، فجاءت شخصيتا «نهى ويارا» تلقائية وطبيعية ومقنعة أيضا. وعلى قدر إجادة أداء «نيكول» جاء الفنان القدير «خالد زكى» بتجسيده أداء شخصية رجل الأعمال «حسين الجمال» بقدرهائل من التألق والخبرة المكتسبة، ويبدو أنه قد قام بالتحضير للدور جزئياً بملاحظة كيف يمشى رجال الأعمال، وكيف يقفون وكيف يجلسون بعدها، بحيث أمكنه تطبيق هذه الحركات لتتماشى مع الشخصية التى أراد تجسيدها، ولعل التركيز الذى بدا فى أدائه يعد شيئًا مهما للممثل، فيجب أن يكون الممثل قادرًا على زج نفسه فى مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه، موهمًا نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقى، ويتطلب ذلك منه أيضًا التركيز على كلّ لحظة بدلاً من ملاحظة الحدث وانتظار ما سينتج عنه، وهو ما فعله زكى فى جميع مشاهده. ويبدو ملحوظا ذلك الأداء المتفرد للفنان المبدع «بيومى فؤاد»فى أدائه دور المحامى البخيل «عامر»، فيبدو ذلك الممثل الموهوب الذى يدرك الحياة حق الإدراك، و يضعها فى خدمة الدور عن طريق الشعور و الإحساس، والتعمق فى كل لحظة من لحظات تأدية الشخصية بملامحها و حركاتها و حواراتها و إيماءاتها و نظراتها، مشيرا إلى أنه يجب على الممثل أن يفهم تمثيل الإحساسات أو الانفعالات التى تتولد من تلقاء نفسها عن الطريق الذى يحدث الحدث و لا يحتاج إلى تصنعها و التكلف بتمثيلها، وعلى ذات الدرب يأتى أداء الفنان «حمادة بركات»، الذى عرف كيف يكون مقنعا مقبولا متلائما مع نفس ودوره بكامله شكلا ومضمونا و بمنطق لا يقبل الشك، بل يحتم عليه أن تعيش الواقع لا أن يمثله، وتلك الحتمية ألزمته دوما أن يكون حيا وحيويا، يتنفس الحياة بصدق ويضفى على مشاهده حضورا حيا، ذى نظام يستند إلى القوانين الطبيعية فى الحياة، شرط امتلاكه التلقائية المطلوبة بحكم خبرته الطويلة على خشبة المسرح. ولابد لمشاهد «ولاد تسعة» على مدار 70 حلقة أن يتوقف أمام ملاحظة أن البطولة الجماعية كانت العنوان الرئيسى لهذا المسلسل، ونتوقف هنا أمام أداء ناعم لخالد سليم استطاع من خلاله التحكم فى جميع انفعالاته بحرفية تحسب له، خاصة أنه امتاز بعقل و جسم نشيط وفر له القوة الديناميكية لتكوين الشخصية، والنجمة الشابة «سهر الصايغ»، والتى قدمت أداء عذبا على جناح التراجيديا المغلفة بطابع كوميدى لشخصية «كريمة»، وهو ما اتقنته «سهر» وقدمته بشكل جيد للغاية، لتثبت أنها ممثلة تعى فعلى الحركة والإشارة جيدا، فهما الطريقتان اللتان يصور فيهما الممثل طريقة مشى الشخصية وقامتها وإشاراتها ومميزاتها الجسمانية الخاصة، فضلا عن قدرتها على فهم هدف كل دافع عاطفى وراء كل حركة تقوم بها الشخصية، وعلى نفس المستوى كانت أيضا «هبة مجدى» التى يتوافر لديها الإحساس و قوة التركيز للأفكار، وقوة التذكر للحركة الجسمانية، ما جعلها تعيش فى الدور وتتسلل تحت جلد الشخصية، وأن تكون لها المقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية و منطقية الإحساس و القدرة على التحليل النفسى لشخصية «إحسان» والذهاب بها إلى مناطق مجهولة فى عوالم خادمات البيوت. أما «ميار الغيطى» فتؤكد أن الممثل الذى يخلص للدور الذى يؤديه، ويعيش فى مجتمع الدور و بإحساس صادق يمكنه الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، وعلى هذا الأساس يمكن تحديد قوة الممثل أو ضعفه أو ما يسمونه بالموهبة الفنية التى يبدو أنها تتوافر لديها بشكل كبير، لكنها لا تزال تنتظر من يوظفها فى المستقبل على نحو يفجر طاقتها الإبداعية الخلاقة، وكذلك حال «إلهام عبد البديع» فى تجسيدها شخصية «بسمة» بعفوية وتلقائية غير مصطنعة، لتشير إلى نجمة قادمة على الطريق، وما يؤكد صدق هذه النبوءة قولها إنها تعتبر «ولاد تسعة» نقطة تحول فى حياتها الفنية، موضحة أنها قدمت فيه شخصية مهمة وصعبة احتاجت منها مجهودا كبيرا على مستوى الشكل والأداء، كما يعد دورها من الأدوار المحورية فى الاحداث، مشيرة إلى أن الفترة المقبلة ستشهد انتقاءها للأعمال المعروضة عليها بدقة شديدة وتختار ما يضيف لها. وتجدر الإشارة هنا إلى أداء كل من القديرة «تهانى راشد» فى عزفها على أوتار الشخصية بعذوبة تعكس الخبرة، ومعها على ذات الوتيرة من الأداء «حلمى فودة» الذى اعتمد على قوة صوته وإيماءاته المعبرة بصدق وفعالية تناسب دوره كمحام مرواغ يعمل لحساب طرفين نقيضين بهدف الحصول على المال، و«حسام فارس» فى تجسيده دور الطبيب بدقة شديدة تعكس نضجه كممثل شاب بدأ خطواته الجادة نحو النجومية، كما يلفت النظر أيضا أداء «لقاء سويدان» رغم انفعالها الزائد عن الحد أحيانا، و«رحمة حسن» بأداء ناعم لا يخلو من الفتور فى لحظات الصعود الدرامى نحو ذروة الأحداث، و«دنيا المصرى» التى حاولت ضبط الأداء طويلا حتى خرجت عن السيطرة على الشخصية قبل إصابتها فى حادث أليم. وتبقى هنالك بعض الملاحظات الإيجابية المهمة فى معرض حديثنا عن مسلسل «ولاد تسعة» حيث يبدو لنا من سياق الأحداث انتهاء كل حلقة بمشهد مفاجئ يجعل الجمهور ينتظر الحلقة المقبلة بفارغ الصبر لاكتشاف أمور جديدة توضح الخطوط الدرامية للمسلسل، كما شهدت الأحداث تغيرا بشكل مستمر بحيث تخالف توقعات المشاهد، الأمر الذى يجعله متشوقا لمعرفة باقى الأحداث، كما يذكر لهذا المسلسل ابتعاده عن الإيقاع البطىء الذى يؤدى إلى الملل، فكل مشهد يجعلك تتذكر قصة مختلفة لكل بطل بالعمل، فضلا عن إتقان كل ممثل لدوره وقدرته على إيصاله بشكل مميز للجمهور، بحيث يبدو لكل مشهد بالمسلسل طابع خاص يجعلك تستمتع بالمشاهدة دون الالتفات لأى شىء آخر، ناهيك عن مناقشة قضايا اجتماعية مهمة وتقديمها بشكل كوميدى، أما النقطة الأبرز فهى اتجاه صناع المسلسلات فى الفترة الأخيرة للاستعانة بأكثر من فنان لتقديم أدوار البطولة، وترسيخ مبدأ البطولة الجماعية، وهو الأمر الذى حقق نجاحا كبيرا فى «ولاد تسعة» ولعل براعة المخرج «أحمد شفيق» كانت العامل الرئيسى للنجاح، حين أدرك أن الشخصية هى الأساس الجوهرى للنص، وهى القلب النابض للحكاية، وهذا ما حفز المشاهد على التعرف بشكل جيد على أسلوب وجوانب الشخصية، وعلى صفاتها وأوضاعها، باختيار ذكى لأماكن التصوير التى تعكس البيئة المصرية التى تسكنها الألفة أحيانا، والبرودة فى أحايين كثيرة لخدمة النص الذى وضعه ببراعة فداء الشندويلى، الأمر الذى حفز صناع العمل جميعا نحو الإجاة على طول الحلقات التى تمتد إلى 70 حلقة، دون أدنى شعور بالملل سوى بعض منه فى الجزء الأول من المسلسل بحكم إنه كان يمهد طوال الوقت لشخصيات تنتمى لطبقات اجتماعية ومحافظات مختلفة، فى إطار اجتماعى رومانسى يتخلله بعض مشاهد الأكشن والتشويق، ويناقش أيضا قضية لم يتطرق إليها أحد من قبل وهى قضية تأجير الأرحام لمساعدة غير القادرات على الإنجاب، بسبب معاناة الأزواج من مشكلات صحية تمنعهم من الإنجاب. نقطة مهمة وأخيرة : إن كانت هناك معالجة جيدة ابتداءً بالنص وانتهاءً بآخر تفصيل فى العمل، فلا أعتقد أنه ينبغى أن يكون هناك سقف للجرأة المُقدمة لأننا نقدم فناً عبر التليفزيون رسالته التنبيه وتوعية المجتمع على المشكلات التى تحدث فيه، والجرأة ليست موضة وإنما حاجة، فهناك أمور بقى المجتمع سنوات ساكتاً عنها وليس من طريقة لمعالجتها إلا أن يراها الناس، وبرأيى أن المجتمعات لا تتطور إلا عندما تبدأ بمواجهة سلبياتها بقوة وتقف أمام المرآة دون أى أقنعة لترى على أى أرض تقف .. تماما كما كشفت أحداث مسلسل «ولاد تسعة» عن قضايا شائكة تم معالجتها بوعى من جانب كل فريق العمل.