مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية فى روسيا فى الثامن عشر من مارس المقبل ، تتزايد حدة «الهستيريا» المعادية للرئيس فلاديمير بوتين، والتهديدات بعقوبات جديدة تشمل ما يزيد على المائتين من ابرز رجال الدولة والحكومة فى روسيا بسبب ما تصفه واشنطن ب «التدخل فى الشئون الداخلية الامريكية»، فى توقيت مواكب لمخاوف الداخل الروسى من احتمالات الاستجابة لدعوات المعارضة لمقاطعة الانتخابات الرئاسية، وهو ما يفسر الجهود المبذولة من أجل حشد أكبر نسبة من الناخبين للمشاركة فى هذه الانتخابات التى تكاد تجمع كل استطلاعات الرأى بأن بوتين سيفوز بها ومن الجولة الاولى وبنسبة لن تقل عن 65-70% رغم مشاركة سبعة آخرين يمثلون مختلف درجات الطيف السياسى . اللافت فى الاستعدادات لانتخابات هذا العام انها تجرى على ذات النحو الذى جرت عليه كل الانتخابات السابقة التى خاضها بوتين منافسا لمعظم المرشحين ممن يبدو انهم «استمرأوا» الهزيمة الثقيلة التى سبق ولحقت بهم. الغريب ايضا ان بوتين يخوض هذه الانتخابات تحت نفس الشعارات التى رفعها فى السابق ، والتى لم تختلف سوى باختلاف أسلحة خصومه فى الخارج ممن يناصبونه العداء منذ اعلن الخروج بعيدا عن عباءتهم فى خطابه الشهير فى ميونيخ فى مؤتمر الامن الاوروبى فى فبراير 2007 مؤكدا رفض روسيا لعالم القطب الواحد وانفراد واشنطن بالقرار الدولى وحقها فى احتلال الموقع الذى تستحقه على خريطة السياسة الدولية. وها نحن امام انتخابات حددت مراكز قياس الرأى العام نتائجها سلفا قبل اجرائها وبوقت طويل. ولعل الكرملين يستطيع التوجه بالشكر الى الادارة الامريكية التى أسهمت بقليل من التوابل على إضفاء نكهة مميزة لانتخابات هذا العام بما أعلنته من «تصريحات»، تعيد إلى الاذهان ما سبق وأضمرته واشنطن من «مخططات» للاطاحة بالرئيس فلاديمير بوتين، من خلال محاولة «تأليب» رفاقه وأعضاء نظامه الحاكم من اجل الانقلاب عليه والتحول عنه من جانب، ومحاولة تأجيج مشاعر الغضب والاحتجاج فى نفوس معارضيه من جانب آخر تحت مختلف الذرائع ، فى نفس الوقت الذى لا تكف فيه الادارة الامريكية عن توجيه تحذيراتها الى الكرملين، من مغبة ما تصفه بالتدخل فى انتخابات الكونجرس المرحلية المقبلة فى نوفمبر من هذا العام.، بعد اتهاماتها لها بالتدخل فى الانتخابات الرئاسية الماضية. هكذا يجرى خلط الاوراق فى الساحة السياسية المحلية والدولية. وهكذا تجرى محاولات استهداف بوتين رغما عما يبدو من شبه اجماع حول تزايد فرصه فى الفوز بولاية رابعة لست سنوات جديدة من الجولة الاولى التى يخوضها معه سبعة مرشحين آخرين. وفى هذا الصدد تقول نتائج قياس الرأى العام الذى أجرته مؤسسة «فتسيوم» ( أحد أبرز مراكز عموم روسيا لقياس الراى العام) ان ما يزيد على 71 فى المائة من المشاركين فى الاستطلاع الاخير كشفوا عن استعدادهم للتصويت لمصلحة بوتين، مقابل 7،3% لمصلحة بافيل جرودينين رجل الاعمال الذى «يدير مزرعة لينين التعاونية بمنطق الرأسمالي»، واختاره الحزب الشيوعى الروسى مرشحا عن الحزب فى هذه الانتخابات الرئاسية، رغما عن تاريخه السابق كاحد المؤيدين لبوتين خلال حملته الانتخابية الرئاسية فى عام 2000. ومن اللافت أن هذه النسبة الضئيلة التى تكاد تبلغ نصف أصوات مؤيدى الحزب الشيوعى الروسي، تحمل مرشح الشيوعيين، ورغما عن ذلك فى مرتبة متقدمة عن منافسه التالى وهو فلاديمير جيرينوفسكى زعيم الحزب الليبرالى الديمقراطى الذى لم يحصل سوى على أصوات 5.5% من اصوات المشاركين فى استطلاع الرأى بنسبة تقل عن قرابة 4% من اصوات المؤيدين التقليديين لهذا الحزب. أما كسينيا سوبتشاك الاعلامية التليفزيونية المثيرة للجدل والتى تخوض الانتخابات بمباركة واضحة من جانب الكرملين «إكراما» لذكرى والدها اناتولى سوبتشاك نجم الحركة الديموقراطية فى نهاية سنوات الاتحاد السوفيتى السابق واستاذ بوتين الذى يدين له بما حققه على صعيد النشاط السياسى فى تسعينيات القرن الماضي، فلم تحظ بتأييد أكثر من 1% من الاصوات المشاركة فى الاستطلاع الاخير، وهى نسبة ورغما عن «ضآلتها الشديدة»، تزيد بما يقرب من ضعف الاصوات التى حصل عليها كل من المرشحين الآخرين ومنهم الزعيم الفعلى لحزب «يابلوكو» اليمينى جريجورى يافلينسكى الذى سبق وخاض وخسر كل الانتخابات الرئاسية تقريبا منذ عهد الرئيس الاسبق بوريس يلتسين ، ومنافسه الليبرالى اليمينى رجل الاعمال الشهير بوريس تيتوف المحسوب عمليا ضمن أعضاء فريق بوتين، والقومى المعروف سيرجى بابورين ، والشيوعى ماكسيم سورايكين. وفيما يتعلق بأشهر رموز المعارضة الروسية ألكسى نافالنى المعروف بمعارك «طواحين الهواء» ضد الفساد وصاحب أطول قائمة للاتهامات ضد بوتين ورفاقه، فقد رفضت اللجنة المركزية للانتخابات تسجيله مرشحا للانتخابات الرئاسية بسبب صدور أحكام فى قضايا جنائية ضده، وهو الذى ورغما عن «شعبيته» بين أوساط الشباب لم يكن ليحصل على نسبة تختلف كثيرا عن بقية منافسى بوتين فى انتخابات هذا العام، بعد أن أفقدته «رفيقته فى معارضة بوتين» كسينيا سوبتشاك بعضا من أنصاره ممن تحولوا الى صفوف مؤيديها. ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيرا لما ينادى به من شعارات تدعو إلى «مقاطعة الانتخابات»، على اعتبارها، «مشاهد لمسرحية عبثية» تكرس نظام حكم الفرد الواحد، على حد قوله، فى نفس الوقت الذى لا يتوقف فيه عن محاولات حشد أنصاره للخروج فى مظاهرات «محدودة العدد» تندد بنظام بوتين وسياساته وتدين تمسكه بالسلطة لما يقرب من ربع القرن تنتهى عمليا فى 2024. على أن ذلك لم يكن ليعنى أيضا، خلود «انصار بوتين» إلى الراحة والهدوء نظرا لحسم المعركة الانتخابية لمصلحة الرئيس بوتين قبل ان تبدأ. فقد وضع هؤلاء نصب أعينهم مواصلة العمل من أجل حشد أكبر نسبة من الناخبين للمشاركة فى العملية الانتخابية، خاصة أن بوتين يظل الوحيد من بين المرشحين الثمانية الذى يخوض معركته الانتخابية بصفة «مستقل» رغما عن تمتعه بتأييد الحزب الحاكم «الوحدة الروسية»، وحزب «روسيا العادلة» وهما من الاحزاب الممثلة فى مجلس الدوما ما يمنحهما حق ترشيح ممثلهم باقل عدد من التوقيعات التى تتراوح بين مائة الف لمرشح اى من أحزاب مجلس الدوما، ومائتى الف توقيع من الاحزاب الرسمية المسجلة ويبلغ عددها 67 حزبا. وكان بوتين ورغما عن ذلك، اختار الوضعية «المستقلة الاصعب» التى سبق وخاض بموجبها الانتخابات الرئاسية الماضية، اعتمادا على شعبيته العريضة التى تعكسها «الجبهة الشعبية لعموم روسيا» التى تضم بين صفوفها عددا كبيرا من الاحزاب الروسية، فضلا عن الاتحادات الشبابية والعمالية والنقابية المختلفة. وفى هذا الصدد يذكر المراقبون الكثير من الفعاليات الشعبية والشعبوية، التى أقيمت أخيرا لدعم ترشيح بوتين ومنها التى جرت تحت شعار «روسيا فى القلب» وتمحورت مضامينها حول اعتبار بوتين الرمز والقدوة والنموذج بما فى ذلك ما اتخذه من قرارات «مثيرة للجدل» غربيا، ولكونها الاكثر استقطابا للمشاعر الوطنية على الصعيد القومى مثل «ضم القرم»، و«العملية العسكرية الروسية فى سوريا ضد الارهاب والحركات الانفصالية المسلحة هناك. وكان المتظاهرون استغلوا تلك الفعالية لمعاودة شحذ الهمم واستدعاء الاحداث الاشهر فى تاريخ الوطن من أجل دعم بوتين ومناصرته فى مواجهته مع خصوم روسيا على الاصعدة الاقليمية والعالمية. وفى هذا الشان تذكرت الملايين انتصارات روسيا والاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية واهمها معركة ستالينجراد منذ 75 عاما، لتؤكد مجددا قدرة روسيا على مواجهة كل الاخطار التى تهدد امنها ومصالحها ومنها العقوبات الغربية التى فرضتها الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبى عقب اندلاع الازمة الاوكرانية وضم شبه جزيرة القرم فى عام 2014، وهو ما كان فرصة جديدة لتأكيد احتجاجاتها ضد القرارات التمييزية التى اتخذتها اللجنة الاوليمبيية الدولية لمنع المئات من الرياضيين الروس من المشاركة فى اوليمبياد بيونج تشانج للالعاب الشتوية بسبب تورط بعضهم فى تعاطى المنشطات. وذلك ما يضيف ايضا الى العملية الانتخابية ابعادا جديدة، تحاول كل الأطراف المشاركة فيها تسخيرها لخدمة مآربها.. الذاتية منها والموضوعية، وإن تبدو هذه الموضوعية عَصِية على الفهم فى الكثير من جوانبها.