أثار التسريب الشيطانى لصور بعض مرضى مستشفى العباسية للأمراض النفسية بدون ملابس حفيظة المجتمع المصرى وذلك بعد إثارتها فى الإعلام مما فتح الباب للحديث عن أبعاد تدهور الخدمة الصحية التي لا ترتبط بتدهور الوضع المادي للعاملين في المجال الصحي قدر ارتباطها بعدم الوعى والإعداد الجيد للطبيب النفسى والأطقم المساعدة له ، وفى هذه الصفحة نسلط الضوء على تاريخ هذا العلم فى المحروسة ...................................................... فارق بسيط ينقل الانسان من خانة العقل الى خانة ما يسمى الجنون .. لحظة .. موقف .. ذكرى .. كلمة .. بضعة ملليجرامات من مادة تزيد أوتنقص من الدماغ فيختل الميزان ويختل معه كل شيء الادراك السلوك الذكريات الافكار ... لغياب العقل تاريخ طويل فى العصور القديمة لم يتمكن الانسان من فهم ما يجرى داخل الدماغ ولم يتمكن ايضا من فهم السلوك البشرى فعزاه الى قوى غيبية كالجن والشياطين واعتبروا ان ذهاب العقل مس من الشياطين وأن الممسوس هذا يجب الابتعاد عنه والتعامل معه كمنبوذ بل احيانا تعذيبه حتى يخرج الجن من جسده احراقه أو مشطه بالحديد لازعاج الشيطان الكامن فى جوفه وبالطبع فان هذا الكم من التعذيب كان يؤذى بالشخص المسكين قبل أن ينزعج شيطانه !! ساد هذا التفكير فى العصور القديمة وحتى العصور الوسطى فى اوروبا أما العصور الوسطى فى الشرق فكان لها شأن آخر فكانت للعالم الكبير ابوبكر الرازى مؤلفات مهمة فى الطب عموما والطب النفسى خصوصا وهوأول من اثبت ظهور الاعراض المرضية العضوية كنتيجة لعامل نفسى وهوما يسمى الاعراض السيكوسوماتية النفسجسدية - وكذلك ابن ميمون الذى الف كتابا بعنوان الرسالة الافضلية أما ابن سينا العالم العربى العظيم صاحب القانون فى الطب فقد أفرد فى مؤلفاته حديثا طويلا عن الطب النفسى وهو أول من صنف العشق كمرض ! ويحكى عن ابن سينا انه كان يعالج أحد الامراء وكان الامير يعانى من اعراض ذهانية (فصامية) أى افكار ضلالية غير حقيقية وهلاوس وغيرها وكان الأمير يتوهم أنه بقرة !! وأنه يجب أن يذبح ! ! واستطاع ابن سينا علاجه بأن اخذ سكينا وأوشك على ذبحه ثم توقف وقال ان البقرة نحيلة ويجب ان يزيد وزنها فقام الأمير بعدها متصورا أن صوت ابن سينا جزء من أصوات الهلوسة التى يسمعها - وأكل بشراهة وبالطبع دس له ابن سينا الدواء فى الطعام حتى شفى ويتضح من القصة مع طرافتها مدى تطور الطب النفسى واساليب تشخيصه وعلاجه فى ذلك العصر . وفى مصر كان البيمارستان بيمارستان قلاوون - أهم وأشهر المستشفيات فى ذلك الوقت يوجد به قسم خاص للمرضى النفسييين وكان علاجهم فضلا عن العلاج الدوائى ممارسة بعض الانشطة والعلاج بالعمل والاختلاط بالمرضى الآخرين وممارسة الانشطة وهوما يعرف حديثا بالعلاج التأهيلى . وفى العصر الحديث انتقل المرضى النفسيون مِن بيمارستان قلاوون إلى وِرش الجوخ التى أنشأها محمد على فى بولاق ، وكان البيمارستان قد أفل نجمه وانزوى، وهجره المرضى غير النفسيين ، ولم يعد يضم بين جنباته سوى المرضى النفسيين فقط، ويقول على باشا مبارك فى الخطط التوفيقية : «فى زمن الفرنساوية تخرب المارستان المنصورى، وتغيرت معالمه، وكان الموجود به من المرضى نحو ستين مريضًا، وكان قسمين ، قسم للرجال، وقسم للنساء، وكل قسم له حوش مخصوص، وكان المرضى يقيمون فى محلات من الدور الأرضى، من غير فروشات والمجانين فى جهة مخصوصة، الرجال فى قسم منها، والنساء فى قسم آخر، وكان عددهم عشرة ، وفى رقابهم الحديد، وكانت النساء تكاد تكون عرايا «وفى منتصف القرن التاسع عشر تولى عباس حلمى الأول حكم مصر وكان طبقا لمراجع تاريخية كثيرة غريب الأطوار يعانى من أعراض اضطراب نفسى يفضل العزلة وكان يبنى قصوره فى أماكن بعيدة فبنى قصرا فى بنها وهو القصر الذى قتل فيه على يد خدمه وكذلك بنى قصرا فى منطقة الريدانية وهى الصحراء التى دارت فيها معركة الريدانية التى انتهت بهزيمة المماليك وكان قصره هذا مهولا وقام بطلائه باللون الأحمر ولقب بالسرايا الحمراء ويروى عنه فرديناند ديليسبس ان له أكثر من ألفى شرفة وهذا يدل على ضخامة القصر إلا أن القصر لم يسكن وشب فيه حريق كبير أتى على القصر كله بجميع محتوياته إلا مبنى من طابقين وكان ذلك فى زمن الخديو اسماعيل الذى قام بترميم المبنى وجعل على جدرانه وسقفه كسوة من الأقمشة المتنوعة الأشكال والقيمة وأيضا قام بطلائه باللون الأصفر ليصير اسم المكان السرايا الصفراء وهو الاسم الذى ظل ملتصقا بالمكان حتى الآن ! سراديب أفندينا من الأمور الغامضة المثيرة للخيال والجدل فى مستشفى العباسية ولأنه صمم فى البداية على أن يكون قصرا ملكيا فقد راعى من قام بالتصميم أن يحفر سراديب تحت القصر تتيح للأمراء أو ساكنى القصر عموما الهروب فى حالة وجود خطر ما يهدد قاطنيه ورغم مرور الزمن وتقلب الأحوال وزوال القصر فعليا الا أن السراديب ظلت كما هى وعددها ثلاثة سراديب أحدها له مخرج عند القلعة مقر الحكم والآخر عند قصر الزعفران بمنطقة الدمرداش والآخر لم تعرف له نهاية وقد داعب الخيال عقول البعض من قدامى العاملين بالمستشفى وخاضوا مغامرة دخول السراديب وحكوا عن وجود آثار بالداخل وحكوا عن الممرات الممهدة التى تتسع لفارس يمتطى جوادا ولكن ظلت الحكايات المبهرة تحرك الخيال خصوصا بعد اغلاقها أو لنقل اغلاق مداخلها ليبقى الخيال ملتهبا والممرات تخفى أكثر مما تظهر. وكانت الحالات المرضية المحجوزة طوال الوقت لا سيما قبل عام 1952 تتنوع ما بين مصريين واجانب من جميع الجنسيات سجل المستشفى حجز حالات سودانيين وسوريين وبريطانيين خاصة الجنود البريطانيين فى أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرهم من جنسيات مختلفة كالروس مثلا وهناك حكاية لطيفة عن أحد المرضى الروس المحجوزين فى مستشفى العباسية وذلك بعد نكسة عام 67 خرج المريض المحجوز لمدة ثلاثين سنة وكان متحسنا بما يكفى ليزاول مهام فى المستشفى من باب العلاج بالعمل اوالعلاج التأهيلى خرج هذا المريض لشراء بعض الاغراض من ميدان العباسية فلما رأى الناس ملامحه الأجنبية ظنوه إسرائيليا وسلموه للجيش الذى تحقق من موقفه وأعاده الى العباسية مرة اخرى ! للأسف الصورة النمطية للمريض النفسى سيئة جدا فى المجتمع لن اقول المجتمع المصرى وانما الأمر فى اعتقادى ابعد من ذلك لدرجة تشمل المجتمع العربى لتمتد الى العالم اجمع هذه الوصمة التى تمتد ليس فقط من التعامل مع المجتمع ولكن تمتد حتى انها تمنع صاحبها لمجرد اصابته بمرض نفسى حتى وليس عقليا من تقلد اى منصب مهم أو قيادى أو حساس ربما يبدو ذلك منطقيا للبعض لكن الوصمة الشديدة والقاسية حقا نجدها فى الشارع والعمل بل ان بعض العاملين فى الحقل الطبى انفسهم يقعون فى هذا الفخ القبيح. أما وقد تطرق الحديث عن الطب النفسى والعباسية فلا يفوتنى هنا حدث قد يطول وقد يمتد فى مقام آخر وهو الحديث عن الادمان وعن الحشيش تحديدا، اللطيف ان بعض الناس لا يعتبر ان مخدر الحشيش يدخل تحت مسمى الادمان اصلا ولكن الواقع انه مخدر وان سوء استخدامه يؤدى الى الادمان فعليا اما عن الارقام الحالية والمعدلات وغيرها فالامور غير واضحة والارقام غير دقيقة الا ان الظاهرة منتشرة بالطبع ومعروف ان هذه الظاهرة قديمة فنجد فى احصاءات عام 1903 قد تم ضبط 24349 كيلو جراما من مخدر الحشيش بزياده 7770 عن العام السابق له وهو نصف المحصول طبقا لمؤشرات نظارة الداخلية فى ذلك الحين ونحو18 فى المائة من مودعى العباسية فى عام 1903 كان بسبب تعاطيهم لمخدر الحشيش !! وجدير بالذكر انه تم تنظيم العمل فى مجال الصحة النفسية بالقانون الصادر عام 2009 خلفا للقانون الذى سبقه والذى صدر فى العام 1941 ! عام 1864 كانت من دواعى الحجز فى مصحة نفسية طبقا للقانون الانجليزى ضحايا الحروب وهو ما يفسر ايداع عدد كبير من الجنود البريطانيين فى المصحات المصرية كما ذكرت من قبل - عقب الاحتلال البريطانى لمصر والتى خضعت بالتالى للقانون الانجليزى . يبقى الجنون جانبا آخر من العقل جانب له حكاياته ونسقه الخاص وقوانينه الخاصة يبقى عالما بأسره له قصصه وحكاياته المثيرة ولكن لهذا قصة أخرى .