لئن أشدنا فى المقال الأخير بما تضمنه مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية من إيجابيات ترقى إلى حد الإصلاحات فإن النقاش واجب أيضاً بشأن ما تضمنه المشروع من سلبيات أقرب إلى التراجعات. طموحنا مستحقٌ ومشروع فى إصلاح تشريعى يليق بدولة التراث القانونى الأعرق فى المنطقة. لكن لعلّها بداية تحرك مياهاً قانونية طال ركودها فى نهرنا الرتيب. فى المشروع تعديلات ملتبسة وإصلاحات مسكوت عنها نستعرضها فى الأمثلة التالية. أولا أبرز التراجعات يتعلق بكفالة حق الدفاع فى طلب الاستماع إلى الشهود كإحدى ركائز المحاكمة العادلة التى كرّسها الدستور. كفالة هذا الحق وصيانته بسياج من الضمانات شرطٌ لنعت المحاكمة بوصف العادلة والمنصفة. ثمة أحكام فى مشروع التعديل تصادر حق المتهم فى الاستماع إلى الشهود مرتين. مرة أولى حين تجعل هذا الحق منوطاً بإرادة المحكمة وحدها بحيث تملك أن ترفض طلب المتهم فى الاستماع إلى شاهد. هنا التذكير واجبٌ بما حدث مراراً من قبل حين أبطلت محكمة النقض الكثير من أحكام الإدانة تأسيساً على الإخلال بحق الدفاع وتحديداً بسبب رفض المحكمة طلب المتهم سماع الشهود. ثم يصادر مشروع التعديل مرةً ثانية حق الدفاع حين يجيز للمحكمة أن تكتفى بتلاوة أقوال شاهد الإثبات دون حضوره أمامها. حرمان المتهم من حق مناقشة شاهد الإثبات وتفنيد الأدلة التى يسوقها وإظهار ما بها من تناقض أو تهافت لا يعد فقط انتهاكاً لحق الدفاع بل إخلال بحسن سير العدالة لأن المتهم حين يناقش شاهد الإثبات فيما أورده فهو فى واقع الأمر يساعد المحكمة على تبيان وجه الحقيقة فى القضية، والأخطر أنه يخالف مبادئ الشفاهية والمجابهة وهى من أصول المحاكمات الجنائية التى لا تستقيم العدالة المنصفة دون توافرها. كنا ننتظر أن يتدارك مشروع التعديل ما شاب القانون 11 لسنة 2017 من تسرع وزلل فإذا بالمشروع يوغل أكثر ويرتد على مبادئ دستورية ومكتسبات حقوقية. ثانياً يثير مشروع التعديل التساؤل بشأن ما تضمنه من نصوص تحظر على المتهم وزوجه وأولاده القُصّر وورثته التصرف فى أموالهم أو إدارتها حال اتهامهم بارتكاب جرائم معينة حين يتم ذلك بأمر من النيابة العامة دون صدور حكم قضائى من المحكمة. وبرغم أن مثل هذا الحظر يعتبر فى الكثير من الأحيان تدبيراً تحفظياً مبرراً ومطلوباً للحؤول دون إخفاء أو إفلات أو تمويه أموال عامة أو ذات مصدر غير مشروع إجمالاً فإن التنظيم التشريعى لهذا التدبير ينبغى أن يتم فى إطار دستورى وقانونى سليم. التذكير واجب مرة أخرى بأنه سبق للمحكمة الدستورية العليا أن ألغت بعض النصوص الخاصة بمنع التصرف فى الأموال أو إدارتها بغير حكم قضائى (دستورية عليا 5/10/1996 قضية رقم 26) وبرغم أن مشروع التعديل حاول تدارك المثالب الدستورية حين جعل منع التصرف فى الأموال أو إدارتها منوطاً بقرار من المحكمة المختصة إلا أنه فى واقع الأمر ما زال يجيز للنيابة العامة فى حالة الضرورة أو الاستعجال أن تأمر مؤقتاً بمنع التصرف فى الأموال أو إدارتها ريثما تصدر المحكمة حكمها فى الطلب بالمنع المقدم إليها وهو ما قد يستغرق فترةً من الزمن. هذا يعنى أن الحذر واجب من شبهة عدم الدستورية التى قد لا تفلت منها النصوص المقترحة لا سيّما فى مخالفتها مبدأ أصل البراءة، والمساواة وحظر التمييزبين المواطنين أمام القضاء، وحماية الملكية الخاصة، واستقلال الذمة المالية للزوجة. ثالثاً فى مسألة الحبس الاحتياطى لا ننكر أن المشروع قد أجاز للمرة الأولى حق المطالبة بتعويض مادى لمن حُبس احتياطياً فى حالات وبشروط معينة، وهو بيقين أمر إيجابي، لكن هذا التعديل (الإصلاحي) لم يقترن بإصلاح متكامل لنظام الحبس الاحتياطى الذى ما زال جائزاً كتدبير يُفترض أنه استثنائى بشأن جرائم بسيطة يكفى أن يكون الحد الأدنى لعقوبتها الحبس لمدة سنة، ومن بينها جرائم تفتقر بطبيعتها إلى المبررات والضرورات التى أملتها فلسفة الحبس الاحتياطي. هذا الحد الأدنى يقل كثيراً عن نظيره فى التشريعات المقارنة (ثلاث سنوات سجن وأحيانا خمس سنوات) وذلك اعتماداً بالطبع على وجود بدائل للحبس الاحتياطى يمكن اللجوء إليها لضمان عدم هرب المتهم أو تأثيره على الأدلة. أما مشكلة الحد الأقصى للحبس الاحتياطى فما زالت بدورها قائمة إذ ليس ثمة سقف لهذا الحبس فى الجرائم المعاقب عليها بالإعدام والسجن المؤبد بينما فى التشريع المغربى مثلاً (قانون المسطرة الجنائية) فإن للحبس الاحتياطى سقفاً زمنياً لا يجوز بحال أن يتجاوز ثلاثة أشهر فى الجنح وعشرة أشهر فى الجنايات يتم بعدها إطلاق سراح المتهم بقوة القانون مع استمرار التحقيق. كان يمكن لمشروع التعديل أن يريحنا من كل هذا لو أنه جعل من بدائل الحبس الاحتياطى وهى كثيرة وفعّالة نظاماً يعالج طول مدة هذا الحبس الذى يكاد يتحول من مجرد تدبير تحوطى إلى عقوبة سالبة للحرية. رابعا من الإصلاحات التى خلا منها مشروع التعديل ما يتعلق بتسليم المتهمين والمحكوم عليهم، والتعاون القضائى الدولى فى مكافحة الجرائم عموماً وجرائم الإرهاب والجرائم المنظمة العابرة للحدود بوجه خاص، وهو أمر أزعم أن مصر تحتاج إليه بشدة، ولا يُغنى عنه وجود اتفاقيات دولية. يرتبط بذلك إصلاح منسى آخر هو بسط تطبيق قانون العقوبات المصرى على الجرائم التى يرتكبها خارج مصر شخصٌ أجنبى إذا كان المجنى عليه فيها مصرياً، وهو ما يُعرف بمبدأ الاختصاص القضائى الشخصى فى شقه السلبي. ولعلّ واقعة قتل المصريين على يد جماعات إرهابية فى ليبيا منذ عامين تكشف عن مدى احتياجنا لمثل هذا التعديل المسكوت عنه والذى يدعم سيادتنا التشريعية والقضائية فى زمن عولمة قانونية فى ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب غالباً! لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم