ظاهرتان استقرتا فى الفضاء السياسى المصرى وربما العربي، الأولي، الإجماع، والتى تسللت إلينا مع حسم ضباط يوليو 52 قضية الديمقراطية التى اختلفوا عليها، رغم أنها تصدرت قائمة الأهداف الستة التى أعلنوها فجر قيام «الحركة المباركة» صبيحة 23 يوليو، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، فقد انحاز غالبية مجلس قيادة الثورة إلى إرجاء تفعيل هذا الهدف لحين تهيئة المناخ العام لتعاطى الديمقراطية، ومعها تتراجع آلية «الانتخاب» لتحل محلها آلية «الاستفتاء»، ويتوارى التصويت والمفاضلة بين متنافسين وتتقدم «المبايعة»، للقائد، الذى يتحول إلى «أيقونة» ما بقى على قيد الحياة، ثم تنهال عليه الأقلام نقداً وقدحاً وذماً بعد رحيله. والظاهرة الثانية حملتها لنا رياح الربيع العربى مدعومة بمعطيات ثورة الاتصالات والسماوات المفتوحة، وهى «النقد للنقد» ويمكن تفهمها حال قراءة مناخات تفجر ثورة 25 يناير 2011، والتى كانت نتاج تجمع إرادات الغضب فى الشارع مع اختلاف اسبابها ودوافعها، تجاه سلطة حاكمة «شاخت على مقاعدها» بحسب وصف الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل. ولم يتغير الأمر مع ثورة 30 يونيو 2013، والتى واجهت اختطاف وطن، وتفكيك شعب، بل زادت الظاهرة تعمقاً واستفحالاً بدخول الذين ازاحتهم الثورة عن السلطة، طرفاً فى الصراع، بكل خبراتهم فى العمل السرى تحت الأرض والممتد لأكثر من ثمانين عاماً، ولا يجدون غضاضة فى التحالف مع قوى إقليمية ودولية مناوئة، توفر لهم الدعم والملاذات الآمنة وتتفق معهم فى سعى تفكيك مصر أو على الأقل اضعافها وإجهادها. وربما جاءت هذه الظاهرة لغياب القنوات الطبيعية والشرعية للتعبير عن الرأى وممارسة حق الاختلاف، والقبول به، وتراجع بناء الوعى وانهيار آليات بناء العقل الجمعي، التعليم والإعلام والثقافة، وموات الشارع السياسى بتحول الأحزاب إلى صور باهتة من الجدر الذى خرجت منه، الحزب الوطني؛ والذى كان ابتعاثاً واقعياً للتنظيم الأوحد قبله، ثم لحقه تفريغ المجتمع المدنى من حيويته، ليدخل فى بيات شتوى ممتد، ولم يكن المد الدينى الانتهازى بعيداً عن المشهد، ولم تكن اصابعه متوقفة عن تعميق ظاهرة «النقد للنقد»، سعياً لتقويض كل ما هو «مدني» و «وضعي» لحساب حلم الخلافة الأثير لدى من يتبنون هذا المد ويدعمونه. تجرى فى النهر مياه كثيرة ومتضاربة ونجد انفسنا أمام استحقاق رئاسى جديد، ويتصدر المشهد إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسى قراره بالترشح للرئاسة، مستنداً إلى ما حققه خلال أربع سنوات سابقة عرضها فى طرح امتد ثلاثة أيام، وتدور ماكينة «النقد للنقد» مجدداً وتشتعل صفحات التواصل الاجتماعى بين مؤيد ومعارض. من الطبيعى أن ينتقد البعض رؤية وأداء الرئيس ومعاونيه، ومن الطبيعى أن يذهب البعض بصوته إلى مرشحين آخرين، فى مجتمع متعدد ومتنوع، وفى ظل دستور يقر حق الاختلاف، وحرية الرأى والاعتقاد، لكن من غير الطبيعى أن نفترض فى الرئيس امتلاكه قدرة خارقة تمكنه من إصلاح ما أفسده الدهر، فى لحظة أو بقرار، أو أن نغفل طبيعة المرحلة، وما آل اليها من أنظمة سابقة، أو ألا نلتفت إلى أن قوى اجتماعية وسياسية استقرت لها مصالح فى ظل تلك الأنظمة، تحتل مواقع عديدة فى الدولاب السياسى والحكومى والشعبى من المدينة حتى القرية والنجع، وفى مؤسسات الدولة العديدة، فى السلطات الثلاث، وكثيرها يتعامل مباشرة مع رجل الشارع، بشكل يومى فى المصالح والهيئات والدواوين والأروقة الحكومية والخدمية المختلفة، ويسيرون، لأسباب مختلفة وربما متباينة، عكس اتجاه القيادة السياسية والرئيس، ولا يمكن تصور امكانية ملاحقتهم أو ضبط ادائهم وفق القانون والدستور فى التو واللحظة. ولم يدع أحد بمن فيهم الرئيس أنه حقق كل طموحات الوطن، لكننا يجب ألا ننكر أنه خطا خطوات واسعة فى مسيرة الإصلاح، ولم يتوقف عن عقد المؤتمرات خاصة مع الشباب لاستطلاع الرأي، والحوار المجتمعي، ومازلنا نتطلع الى المزيد وإلى تقييم هذه التجربة لتأتى بثمر أكثر وأعمق. وقد يكون الرئيس بحاجة إلى اعادة هيكلة منظومة الإعلام فى ظل ثورة الاتصالات وشيوع المعلومات عبر قنوات هذه الثورة، بعيداً عن الأنماط التقليدية، لحساب بناء وطن عانى الكثير ويستحق أن يجنى ثمار جهده وألمه وتضحياته، لندرك أن ما يتم من مشروعات بناء البنية الأساسية لا يلمس نتاجها الشارع بحكم طبيعتها لكن لا بديل عنها فى اقالة الاقتصاد من عثرته، وعلينا ان نتعامل مع الرئيس باعتباره شخصا يعمل فى أجواء مناوئة ويواجه تحديات لها انياب ومخالب. وحتى يتحقق للوطن غايته فى البناء والتنمية والخروج من النفق الذى طال لعقود لا بديل عن بناء جدار الثقة بين اطيافه المختلفة وإعادة الحياة للشارع السياسى والشارع الحزبى على أسس موضوعية عرفها العالم قبلنا، تنتج لنا برلماناً وسلطة تشريعية تملك احداث التوازن بين سلطات الدولة وتفتح آفاق الانطلاق لدولة مدنية حديثة، فى اطار من المكاشفة والشفافية. لمزيد من مقالات د. كمال زاخر