عقب صلح وستفاليا الذى شهد إرهاصات نشأة مجتمع دولي يضم دولاً قومية حديثة بدأت من خلال كتابات جروشيس وزملائه فكرة وجود تنظيم قانونى تحكم قواعده العلاقات الدولية بين مختلف أعضاء المجتمع الذى يضم شعوب العالم الحديث المتمدين. وظل التطور يأخذ مساره في تأصيل تلك القواعد الملزمة إلى أن استقرت بنهاية الحرب العالمية الثانية في صورة «جماعة دولية» متماسكة يحكمها نظام عالمى يتمثل في منظمة الأممالمتحدة التي تمثل دستورها في ميثاق سان فرانسيسكو عام 1945. وتشمل هذه «الجماعة الدولية» شعوب ودول العالم التي أجمعت على نبذ الحرب كوسيلة لحل المنازعات بين الدول وفى ذات الوقت تبنت قواعدً منضبطة تكفل سيادة القانون الدولى، ونظمت الوسائل السليمة التي يتعين اللجوء إليها بما في ذلك الخضوع لمحكمة العدل الدولية وصولاً إلى حلول ملزمة إذا تعذر الحصول على حلول مقبولة في إطاري مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. وفى هذا الإطار يتعين أن تتجه الأنظار لمواجهة الاعتداء الخطير الذى يواجه الآن الجماعة الدولية نتيجة الخروج السافر للولايات المتحدةالأمريكية عن أصول ومبادئ القانون الدولي بتقرير مصير إقليم خارج عن سيادتها لمصلحة دولة صديقة تحتل أراضي للغير بالمخالفة لكل القواعد والمواثيق الدولية بما فيها مقررات الأممالمتحدة الصادرة وفقًا لميثاقها. وفى تقديري أن هذا الخروج عن الشرعية الدولية ليس له سوى علاج واحد في ظل التنظيم القائم الذى يوجب الحل السلمى، وذلك عن طريق إدانة ما تم من تصرفات مخالفة للقانون الدولى من جانب كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. فإذا لم تنجح الجهود داخل مجلس الأمن وفى الجمعية العامة وصولاً إلى إدانة قرار الرئيس الأمريكي الحالي المخالف للقانون الدولى، والصادر في 6/12/2017 من منطلق الحفاظ على شعبية سعى إليها خلال انتخابات داخلية استغل فيها قرارات ذات طابع سياسى كان الكونجرس الأمريكي قد وافق عليها عام 1995 في مجال المزايدة على تدليل دولة إسرائيل. والنظام الدولى المعمول به في ظل ميثاق الأممالمتحدة يتضمن نصاً قاطع الدلالة على أن محكمة العدل الدولية هي الجهاز الرئيسي الذى يتعين الرجوع إليه لمباشرة الرقابة على المشروعية الدولية. فالمحكمة وحدها صاحبة الولاية في تقرير ما إذا كان تصرفاً معيناً قامت به دولة من الدول الأعضاء يعد مطابقاً أو مخالفاً لمتطلبات القانون الدولى. والمحكمة تمارس هذه الولاية عن أحد طريقين؛ أولهما : الرقابة القضائية في صورتها الكاملة الإلزامية من خلال دورها الذى تباشره عن طريق حكم واجب النفاذ وحائز لقوة الشيء المقضي به بين الأطراف التي قبلت الخضوع الإلزامي للمحكمة؛ وثانيهما : عند تخلف ذلك القبول الإلزامي، عن طريق إصدار آراء استشارية بناءً على طلب من أحد أجهزة المنظمة الدولية، وهى عادة الجمعية العامة إذا ما تعذر الوصول إلى حل مقبول للجميع صادر من مجلس الأمن نتيجة ممارسة إحدى الدول الدائمة العضوية لحق الاعتراض (الفيتو)، كما حدث في عام 2004 بالنسبة للجدار الذى قامت إسرائيل بإقامته بالمخالفة للقانون الدولى. ولمواجهة متطلبات الإعداد المطلوب للمعركة القانونية التي فرضتها السياسة الأمريكية المخالفة لمتطلبات القانون الدولي، لعله من المناسب أن تشرع جامعة الدول العربية في الإعداد فوراً لمؤتمر عالمي تدعو إليه كبار المتخصصين في القانون الدولي من الأساتذة والباحثين في المراكز المتخصصة سواء من العرب أو غيرهم في كل أنحاء العالم ممن يؤمنون بسيادة القانون، وضرورة احترام قواعده، وذلك كي تصير الأبحاث والأوراق المقدمة في هذا المؤتمر العالمي نواة صلبة للجهود التي يتم من خلالها إدارة النزاع المتعين طرحه على محكمة العدل الدولية في أقرب فرصة ممكنة. أما إذا قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية، برفض الخضوع إرادياً للولاية القضائية للمحكمة مؤثرة أن تسير على نهج الدول المارقة المناهضة للشرعية الدولية التي تأبى قبول رقابة القضاء الدولي لمشروعية تصرفاتها التي تمس حقوق الغير، فلا يكون أمام المجتمع الدولي حينذاك سوى اللجوء إلى ذات الحل الذى مارسته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2003 عندما طلبت من المحكمة النظر في مدى مشروعية بناء الجدار الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، والذى جاءت نتيجته وفقاً للرأي الاستشاري الصادر في 9 يوليو عام 2004 بعدم مشروعية ما قامت به السلطات الاسرائيلية بحكم شبه إجماعي صدر بموافقة 14 قاضياً ضد صوت واحد انفرد به القاضي الأمريكي. وفى تقديري أن إعادة التجربة لمواجهة قرار الرئيس الأمريكي مستر ترامب ستأتي بذات النتيجة، خاصةً أن كل ما يمكن أن تسفر عنه الحجج الأمريكية المتعلقة بالدفع بعدم الاختصاص والدفع بعدم جواز القبول كان قد سبق أن واجهته المحكمة عام 2004، وتولت الرد عليه في الفقرات ما بين 14- 64 في أكثر من 20 صفحة، قبل أن تنتهى في الفقرة 65 إلى تقرير اختصاصها بنظر النزاع المطروح وأنه لا يوجد ما يحول دون إمكانية ممارسة المحكمة لاختصاصها في هذا الشأن، وهو ما عادت لتأكيده في المنطوق الصادر بالاختصاص إجماعياً وفى مجال مناسبة ممارسة هذا الاختصاص بأغلبية ال 14 قاضياً ومعارضة القاضي الأمريكي. وبالنسبة لعدم مشروعية ما قامت به إسرائيل بالمخالفة للمقررات الدولية جاء الرأي من حيث الموضوع مقرراً لعدم المشروعية للمخالفة لقواعد القانون الدولي بذات الأصوات ال14 كما حدث أخيراً في مجلس الأمن ضد قرار الرئيس الأمريكي. لمزيد من مقالات د. أحمد صادق القشيرى