يرى الروائى «المغبون» «محمد غزلان»، أن الأدب معنيّ برصد متناقضات الواقع، وليس مطلوبا منه تغيير هذا الواقع، فقط، يطرح القضايا تحت ضوئه لعل المعنيين يتنبهون إليها، ويوجدون حلولا لها. مستشهدا بأعمال أديب نوبل «نجيب محفوظ» من حيث تعرضها لقضايا جوهرية، كما فعل هو من بداية مسيرته الإبداعية1991، فى رواياته « لغز ماكسويل امبراطور الصحافة البريطانية»، و«الخروج من بغداد»، و«أول القصيدة بسيطة»، و«الوطي»، و«مذاكرت عبده ريال»، و«المعادى حدوته»، التى يعكف على كتابة جزئيها الثانى والثالث الآن. تهتم بالمكان عادة فى أعمالك، لدرجة أنك جعلته بطلا فى روايتك الأخيرة «المعادى حدوتة»، حيث اهتممت بتفاصيل نشأة حى المعادى المميز، فما الذى أغراك بكتابة هذه الحدوتة المدهشة؟ تزامنت نشأة المعادى مع عدد من الضواحى المهمة الجديدة فى مصر بدايات القرن العشرين، مثل منطقة سموحة فى الإسكندرية 1904، ومصر الجديدة 1905، وفى 1906 تم إنشاء خط سكة حديد لربط حلوان بوسط القاهرة فى باب اللوق. ففكر«الأخوين موصيري» بإنشاء منطقة سكنية على خط القطار الجديد، الذى عرف وقته ب «wright Rail Way»، فاستقدما المهندس الاسترالى «بايتون مائير» لوضع تصور للحى الجديد، فتم تصميم الميدان الرئيسى للمنطقة على هيئة العلم البريطاني، وأشرف على البناء الضابط الانجليزى «آدم سميث»، وسارع «الأخوين موصيري» بشراء الأراضى من المزارعين حتى وصل سعر الفدان حينئذ عشرين جنيها، وأقبل الأثرياء على المنطقة وتملكوا الفيلات والقصور، واحتفظت المنطقة بجمالها وهدوئها فترة من الزمان. إلى أن فوجيء أهل المنطقة بغزو أصحاب الأموال وقيامهم بتحويل المنطقة إلى غابة من العمائر التى أفقدت المنطقة تميزها وهدوءها. ليس هذا فقط ما انشغلت به فى روايتك، فقد رصدت أيضا الصراع بين أهل المعادى والوافدين عليها، فهل هذا وذاك من مهام الأدب بظنك؟ الرواية ألقت الضوء على نشأة المعادي، من دون الإغراق فى التاريخ، وإلا لتحولت إلى كتاب تاريخ. بل راعيت تضفير التاريخى بالاجتماعى ليستمتع القاريء بالأدب وتشويق حدوتة النشأة من خلال الشخصية الرئيسية، الراوي، «لقمان القاضي»الذى يحفظ تاريخ المنطقة، وأصبح مرجعية لمعرفة سكان المنطقة الأصليين، والوافدين. قلت إن للرواية جزين، ثان وثالث، فهل قطعت شوطا فى أيهما، فهل سيصبح الزمان بتقلباته هو البطل فيهما، بعدما أخذ المكان حقه؟ الجزءان يحويان كثيرا من الأحداث والتطورات التى شهدتها المعادى منذ نشأتها، إلى أن تشوهت تحت دعاوى التطوير، وأحيانا ينوب حى عن وطن كامل، وأعكف الآن على إنجازهما معا فى أقرب وقت ممكن. وفى روايتك «مذكرات عبده ريال» تتبعت يوميات مصرى يعمل فى الخليج، وتوقفت بعمق فيها أمام التحولات السلبية فى الشخصية المصرية، خلال العقود الأخيرة،وكأنها كتاب علم اجتماع، وهذا من أدوار الأدب الجوهرية.. أليس كذلك؟ هذه الرواية تحديدا سيئة الحظ منذ كتابتها إلى نشرها، فقد كتبتها فى خمس سنوات، وانتظرت نشرها خمسا أخري، وهى ليست مجرد تأريخ لفترة عاشها المصريون فى الغربة؛ فأنا أراها فترة هروب كبير فى التاريخ المعاصر، وهى زمن موجات الهجرة الجماعية فى منتصف السبعينيات، وقبلها كان سفر المصريين فى محيط المحاولات الفردية، لكن بعد حرب أكتوبر أصبحت ظاهرة تحسب بالملايين، فكانت هناك قرى كاملة يسافر رجالها إلى الكويت، وأخرى إلى السعودية، وثالثة إلى قطر، فبدت كحقبة خلاص فردي، ومرحلة تطلعات اجتماعية أججها الانفتاح الاقتصادى بأنماطه الاستهلاكية. فسافر الجميع من أجل المال أملاً فى تحسين الأوضاع، لكن الأوضاع الاجتماعية انهارت. وقد عشت تلك الفترة فى البحرين، وكانت فرصة للرصد والتأمل، وتبعتها بسفرة تالية إلى قطر، فاكتملت الصورة، ونضجت الرواية فى مخيلتي، وكانت «مذكرات عبده ريال». نتيجة معايشتى شخصيات مصرية حقيقية فى الغربة، ومشروعى الروائى من أول عمل «الخروج من بغداد» يعتمد على شخصيات وأحداث واقعية. بين قرية «تلوانة» فى الباجور منوفية، والدوحة عاصمة قطر تدور أحداث الرواية، فلأى مدى أثرت التغييرات على القرية وناسها؟ بطل الرواية «عبده ريال» اسمه «عبد الحميد محمد سعد فكّة»، من مدينة الباجور قلب المنوفية، وكان خروجه من قريته شأن خروج أمثاله، تحركه دوافع كامنة، كان أمامه شقيقه عطية الذى سبقه إلى السفر، يعود فى إجازاته محملاً بالهدايا وغيرها من الأشياء التى تثير خيال الفلاحين، وكان هو يتوق لتحقيق ما حققه، خاصة أن عوائد السفر تحولت فى تلك الفترة إلى أراض أو عقارات. وأهل القرى مكشوفون لبعضهم وكلهم يحاولون تقليد بعضهم، لذا كان التأثير كبيرا على القرية والناس. التيمة المتكررة فى اعمالك هى «البحث عن شيء ما»، مثل البحث عن تفاصيل الزمن الجميل فى رواية «حاول»، والتائه فى «الخروج من بغداد»، والأوراق الرسمية فى «أول القصيدة بسيطة»، والمال فى «عبده ريال»، فما سر انشغالك بهذه الحالة؟ كل منا يبحث عن شيء ما فى الحياة، وشخصيات رواياتى مثل غيرهم، يبحثون عن المفقود، أو المأمول، أو المرتجي، كان جدى رحمه الله يُسبّح قائلاً: «سبحان من أوجد فى كل قلب ما يشغله». وفى روايتك «الواطي» تعرضت للفساد فى المؤسسات الصحفية، فهل عملك بالصحافة واطلاعك على الخبايا هو الذى ساعدك فى بلورة رؤيتك، أم أن التفاصيل متوافرة والموهبة هى الفيصل؟ الرواية صدرت فى فترة كان الحديث يدور همسًا حول فساد المؤسسات الصحفية، والإتاوات التى كانت تدفع كهدايا لكبار مسئولى الدولة، وتحقيقات مابعد ثورة يناير كشفت المزيد والمزيد، ووقتها ادعى البعض أن رواية «الواطي» محض خيال، أو نوع من التلاسن، لكن ما كشفه جهاز الكسب غير المشروع من حصول المسئولين على عشرات الملايين من المؤسسات الصحفية، وكانوا يدفعون هذه الرشاوى للبقاء فى مواقعهم، لمدد زادت على عشرين عاما. «الواطي» عنوان صادم، فهل كان ضرورة فنية، أم رغبة فى اجتذاب القراء؟ المشكلة ليست فى العناوين، لكن فى المضامين، وعنوان الرواية جعل السلطات السعودية تمنعها من معرض الرياض فى 2009، لكن أليست هناك عناوين تشبهه، مثل «الأبله» لديستوفكي، و«الغبي» لفتحى غانم، و«البأف» لمحمد مستجاب، و «الجربوع» لمحمد المخزنجي. هل اشتغالك بالصحافة؛ كان دافعا إيجابيا لإبداعك، أم مثَّل عائقا سلبيا؟ عادة يوجه هذا السؤال لكل من احترف الأدب من الصحفيين، والإجابة واحدة تقريبا، وهى أن العمل بالصحافة له جوانب إيجابية لمن يعمل بالأدب، ويكفى أن أقول إن العمل بالصحافة يقضى على الحالة المزاجية لكتاب الأدب؛ بمعنى أن الصحفى يكتب طوال عمره فى عسره ويسره، عملا يوميا لا يخضع للمزاجية، وبدلاً من ذلك؛ وهناك أدباء لم تعقهم الصحافة بل دفعتهم لمزيد من الإبداع، مثل إحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وفتحى غانم، وعبد المنعم الصاوى وغيرهم.