وسط دوى هتافات « جيرمى... جيرمى.. جيرمى»، وجلبة وصخب الموسيقى، دخل زعيم حزب العمال البريطاني جيرمي كوربن لإلقاء كلمته أمام المؤتمر السنوى لحزب العمال فى مدينة برايتون على الساحل البريطانى الجنوبي. الآلاف من شباب وكهول الحزب المشاركين في المؤتمر يكادون يتذوقون طعم «10 داوننج ستريت». كوربن نفسه لم يحاول إخفاء مشاعره وطموحاته «نحن حزب حاكم بالانتظار» و«نحن جاهزون للحكم». ومع ذلك لم يقل كوربن الكثير حول البريكست خلال مؤتمر حزبه. على النقيض، تعمد مع أعضاء حركة «مومينتوم»، التى باتت العمود الفقرى له فى الحزب، قتل أى مساعى لمناقشة البريكست خلال المؤتمر. فالبريكست هو أكثر القضايا استقطاباً اليوم في بريطانيا. ومؤتمر حزب العمال، لم يرد إظهار خلافات الحزب، وهى عميقة، بصدده. غياب البريكست من على طاولة النقاش أزعج البعض، لكن أجواء التفاؤل العام والحفاوة البالغة التى اسُتقبل بها كوربن وهتافات أنصاره غطت على أى انتقادات. وتقول ماريا مالكوم، إحدى عضوات حركة «مومينتوم» ل«الأهرام» :»العمال بات حزب عامة البريطانيين. نحن حزب العامة. وجيرمى سيكون رئيساً للوزراء». على النقيض من ذلك التفاؤل، الذى له ما يبرره إذا ما صدقت استطلاعات الرأى العام، بدأ المؤتمر السنوى لحزب المحافظين الحاكم بزعامة تيريزا ماى أخيرا على واقع مغاير تماماً. فرئيسة الوزراء البريطانية استيقظت صباحاً، ليس على التهانى لمناسبة عيد ميلادها الحادى والستين، بل على عناوين الصحف تتحدث عن الخلافات داخل الحزب والتنافس الحاد على خلافتها على رأس الحكومة. وبدلاً من التركيز على سلسلة القرارات التى من المقرر أن تعلنها خلال مؤتمر الحزب لجذب الأصوات التى فقدتها فى الأشهر الماضية، خاصة أصوات الشباب، وجدت التركيز موجه كلياً إلى وزير خارجيتها بوريس جونسون الذى يسابق الزمن لوضع نفسه فى مقدمة المرشحين لخلافتها، والذى يعتقد بحسب مقربين منه أن ماي لن تصمد فى السلطة سوى عام واحد. وبين عناوين الصحف التى وصفتها ب»المكسورة» و»الضعيفة» و»المحاصرة»، ورسوم الكاريكاتير اليومية التى تصورها مقيدة بأغلال الحزب والخطوط الحمراء للبريكست، تقف تيريزا ماى بإنتظار مصيرها. فهي وإن كانت من الناحية السياسية لديها الشرعية لقيادة بريطانيا حتى 2022، إلا أن الواقع مختلف تماماً. فكبار قيادات حزب المحافظين رفضوا خلال الأيام القليلة الماضية تأكيد أنها ستظل زعيمة للحزب ورئيسة للوزراء حتى ذلك الوقت، ومن بين هؤلاء مسئولين فى الحزب يشاركونها رؤيتها للبريكست مثل وزير الخزانة فيليب هاموند. ففى اللحظة الراهنة الهاجس الأكبر للحزب هو إيجاد الخليفة المناسب لتيريزا ماى الذى يمكن أن يفوز على حزب العمال بإجندته الشعبوية الجذابة التى تعد بالكثير دون ذكر تفاصيل. ولم يعد خافياً أن قيادة حزب المحافظين لم تعد تحصر الأسماء المرشحة لخلافتها في جونسون وهاموند ووزير شئون الخروج ديفيد ديفيز ووزيرة الداخلية أمبر راد، فعملية البحث شملت حتى وجوه شابة صاعدة في الحزب. وتقول الكسندرا بونيفيس، إحدي عضوات حزب المحافظين فى منطقة سارى جنوبلندن:»هناك فجوة بين ما تريده ماى وما يريده الكثيرون داخل الحزب. فهى تريد البقاء حتى 2022 وخوض الانتخابات المقبلة. بينما يريد الكثيرون فى الحزب منها المغادرة بحلول 2019. وفتح المجال أمام وجه جديد». وتتابع موضحة ل»الأهرام»:»منذ أعلنت ماى فى خطابها فى فلورنسا دعم الحكومة لمبدأ العامين الانتقاليين قبل البريكست، ما يعنى أن مغادرة الإتحاد الأوروبى لن تتم إلا عام 2022، شُحذت الخناجر ضدها فى الحزب، ليس لأن الحزب يرفض عامين انتقاليين لتطبيق البريكست، بل لأنه يرفض أن تربط ماى مصيرها بمصير عملية البريكست. فتمديد مهلة البريكست لا يعني بالضرورة تمديد فترة ماى على رأس الحكومة». لم يغفر الحزب لماى دعوتها المتسرعة لإجراء انتخابات عامة ف يونيو الماضي التى كلفت حزب المحافظين أغلبيته البرلمانية. لكن الأخطر كما تقول بونيفيس بالنسبة لماى إن المستفيد الأول كان جيرمي كوربن «إذا وصل للسلطة عليه أن يرسل لها خطاب شكر». وهناك مستفيد أو أكثر من وضعها الهش الضعيف. على رأسهم بوريس جونسون الذى لا يدخر جهداً لإضعافها وإحراجها علانية لدرجة أن المعلقين السياسيين فى بريطانيا باتوا مقتنعين أن جونسون يفعل كل ما بإستطاعته كى تطرده ماى من الحكومة، حتى يحقق حلمه بمنافستها على الزعامة عاجلاً وليس أجلاً. فقبل كلمتها المحورية حول البريكست فى فلورنسا نهاية سبتمبر، استبق جونسون كلمتها وخطف الأضواء منها بكتابة مقال من 4 آلاف كلمة حول رؤيته هو للبريكست. وعشية عقد مؤتمر حزب المحافظين، استبق جونسون إعلانها خططاً ل»طريق إلى مستقبل أفضل»، وأعطى صحيفة «ذى صن» مقابلة مطولة حول خطوطه الحمراء للبريكست، داعياً إلى ألا تتجاوز المرحلة الانتقالية السنتين. قائلاً «هل سئمت الأمر (البريكست)؟ هل أريد الانتهاء منه في أسرع وقت؟ نعم بالتأكيد. هل أريد ألا يزيد التأخير عن سنتين؟ نعم. ولا ثانية واحدة». خلال المقابلة لم ينف جونسون طموحاته لخلافة ماى، لكنه وصفها بالمبالغ فيها. لكن كل وعودها من المستبعد أن تغير الحقيقة الناصعة على الأرض وهى أن البريكست حتى الأن «قصة فشل». ووسط كل هذا ينظر الإتحاد الأوروبى إلى بريطانيا بكثير من الذهول. فرئيس البرلمان الأوروبى دونالد توسك الذى زار بريطانيا مؤخرا، قال بعد مباحثاته مع ماى أنه يعتقد أن مبدأ بريطانيا التفاوضى القائم على «الإحتفاظ بالكعكة وأكلها فى نفس الوقت قد انتهى عهده. أو هكذا أتمنى». أما رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فقد حذرمن أن بريطانيا تحتاج إلى معجزة لبدء المرحلة الثانية من مفاوضات بريكست الشهر المقبل، حيث من المفترض أن يقرر قادة الإتحاد الأوروبى خلال قمة تعقد فى 19 و20 أكتوبر الحالى، ما إذا كان التقدم المحرز فى ثلاث قضايا هى فاتورة خروج بريطانيا، وحدود إيرلندا الشمالية، وحقوق المواطنين الأوروبيين المقيمين فى بريطانيا، كافياً لبدء بحث قضايا العلاقات المستقبلية. وبينما يتناحر السياسيون فى بريطانيا، وبينما مفاوضات البريكست ما زالت تراوح مكانها، وبينما الحزبان الكبيران يفعلان كل ما بإستطاعتهما لتهميش البريكست والتركيز على قضايا أخرى يمكن أن توسع قاعدتهم الانتخابية مثل اصلاح برنامج الرعاية الاجتماعية وتمويل برنامج الرعاية الصحية وبناء المزيد من المساكن رخيصة التكلفة، وتجميد رسوم التعليم الجامعى، فى غضون كل ذلك، نشرت المفوضية الأوروبية تقويمها ل23 مدينة مرشحة لاستقبال «الوكالة الأوروبية للأدوية» و»السلطة المصرفية الأوروبية» اللتين تتخذان لندن مقراً، ويُفترض أن تغادراها بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى. بعبارة أخرى، لقد بدأت خسائر بريطانيا من البريكست تتراكم، حتى قبل أن تخرج من الإتحاد الأوروبى.