قد يكون مستغربا أن يثير تمثال برونزى مبهم أحداث عنف تسفر عن قتلى وجرحى فى مدينة تشارلوتسفيل التى فازت عام 2014 بلقب أسعد مدينة أمريكية. لكن الأكثر إثارة للاستغراب هو لماذا أقيم التمثال أصلا؟! فهذا الشخص الذى يعتلى حصانه يخلد ذكرى روبرت إدوارد لي، الجنرال العسكرى الذى قاد جيش الاتحاد الكونفيدرالى الأمريكي. وكان هذا الاتحاد يمثل 6 من ولايات الجنوب العتيدة فى استعباد السود بعد أن أعلنت انفصالها عن الولاياتالمتحدة. وفى عام 1865، انتهت المعارك الأهلية باستسلام القائد «لي» ، الذى وإن امتدحه البعض لشجاعته وعدم مغالاته فى استعباد السود، فهو فى نهاية الأمر ليس بالشخصية التاريخية المبهرة التى ظهرت فى سياق تاريخى يستحق التخليد. لكن رمز الكونفيدرالية «لي» يعد بطلا بالنسبة لأنصار اليمين ومن يعتقدون بالاستعلاء العنصري، أى بأن العنصر الأبيض أرقى وأفضل ممن سواه من الأجناس البشرية الأخرى. وخير من يمثل هؤلاء جماعة «كو كولكس كلان». بلغت تلك الجماعة أوج قوتها فى عشرينيات القرن الماضي، حيث بلغ عدد أعضائها نحو أربعة ملايين أمريكي. وتزامن ذلك مع صعود تيار اليمين العنصرى فى ألمانيا فى عهد النازية. ثم توارت الجماعة تدريجيا دون أن تختفي، لتعود بقوة أثناء انتخابات الرئاسة الأمريكية العام الماضي. وكان قرار مجلس بلدية تشارلوتسفيل فى أبريل الماضى بإزالة تمثال الجنرال «لي» ذريعة لقيام هؤلاء اليمينيين بمسيرة كبيرة ظهروا خلالها بملابسهم العسكرية رافعين رايات الكونفيدرالية ومرددين هتافات تعبر عن كراهية غير البيض، ولكن مسيرة اليمينيين البيض سرعان ما اجتذبت طائفة أخرى منظمة مثلهم، لكنها معادية لهم وتمثل اليسار. وهكذا تحولت مدينة تشارلوتسفيل الليبرالية الجميلة إلى ساحة مواجهة بين حركة الاستعلاء العنصرى اليمينية «وايت سوبريماسي»وأنصار حركة مناهضة الفاشية، المعروفة اختصارا باسم»انتيفا». ونشأت «انتيفا» أيضا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى وانتشر أعضاؤها فى ألمانيا وأسبانيا وإيطاليا كحركة مضادة للنازية والفاشية. ثم عادت فى السبعينيات مع حركة «البونك» فى ألمانيا وبريطانيا كرد فعل لظهور النازية الجديدة فى أوروبا، ومنها انتقلت الحركة إلى الولاياتالمتحدة. وقد أوقعت أحداث تشارلوتسفيل الرئيس دونالد ترامب فى موقف آخر جعله فى مرمى انتقادات الصحافة التى يكرهها ومناوئيه الذين يتربصون به، ففى بادئ الأمر أدان ترامب كلا الجانبين، ثم عاد وحمل اليمينيين البيض مسئولية الأحداث العنيفة، ثم غير رأيه مرة ثالثة وعاد لتصريحه الأول وأدان الطرفين. ورغم أن الحركتين فعلا تتقاسمان مسئولية أحداث العنف، ورغم خروج أعضائهما عن إطار التظاهر السلمى بما يجعلهم جميعا تحت طائلة القانون، إلا أنه من غير المنصف وضع الحركتين فى كفتين متساويتين. «أنتيفا» تتحمل جانبا من المسئولية لأنها بلجوئها للعنف تعطى مبررا لتصاعد عنف اليمين العنصري. ولأنها كجماعة غير منتخبة تستخدم العنف، تقوض أبسط مبادئ الحياة الديمقراطية وتمثل عبئا أخلاقيا على مؤيديها من الليبراليين وأعضاء الحزب الديمقراطي. وفى دولة رائدة للعالم الحر وراعية للديمقراطية كأمريكا، لاينبغى للصراع بين معتنقى العقائد الفكرية المختلفة إلا أن يكون سياسيا وبالوسائل السلمية. حركة اليمين الأبيض العنصرى تستحق الإدانة لأنها تفوق حركة اليسار «انتيفا» فى نطاق ومقدار أعمال العنف التى ترتكبها. كما أنها أكثر تأثيرا فى السياسات الأمريكية، إذ تحظى بتأييد ضمنى وعلنى من كثير من الجمهوريين، بل ويلعب حاليا بعض مؤيديها أدوارا فاعلة فى البيت الأبيض. ورغم قوة العنصر الأبيض فى أمريكا، فإن هناك مفارقة مدهشة يكشف عنها عالم الاجتماع ميتش بيربرير، وقد أجرى دراسة على عشرات اليمينيين من أنصار الإستعلاء العنصري، وانتهى الباحث إلى أن قادة اليمين يروجون فى خطابهم لفكرة أنهم جماعة مضطهدة وحقوقها مصادرة، وهى فكرة المظلومية نفسها التى تدعيها الجماعات ذات الأيديولوجيات المنحرفة لتبرير أعمال العنف وحشد الأنصار. صيف تشارلوتسفيل الملتهب يكشف عن مشكلة مخيفة تعانيها أمريكا لن تنتهى بإدانه اليسار المتطرف. قد تكمن بداية الحل فعلا فى إزالة تمثال الجنرال «لي» وغيره من رموز العنصرية من الميادين العامة، لكن الأهم مواجهة الفكر العنصرى المتجذر فى تاريخ أمريكا وحاضرها. فايزة المصرى كاتبة صحفية مقيمة فى واشنطن