يقوم الفكر السياسى فى تاريخ المجتمعات المسلمة على أولوية المجتمع على الدولة، وأن استقرار المجتمع، وانتظام حياة الناس، واستدامة الأمن والأمان بالنسبة لهم أهم كثيرا من مجرد تغيير حاكم ظالم أو مستبد. تأتى هذه الرؤية ضمن منظومة متكاملة تقوم فى الأساس على استقلال المجتمع، وقيامه بالوظائف الضرورية لاستمراره من خلال الأوقاف التى تنفق على التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وغيرها. الثورة ليست من تقاليد المجتمعات الإسلامية، ولم تعرفها إلا فى حالات تخريب وتدمير وفساد؛ مثل ثورة الزنج والحشاشين والقرامطة، لذلك وضع الإمام الجويني، المتوفى 478 هجرية1085 م، فى كتابه «غياث الأمم فى إلتياث الظُلَم»: قاعدة صارمة تقول إنه لا يجب تغيير الحاكم إلا إذا أعلن كفراً بواحاً بأن يمنع الناس من الصلاة، وما دون ذلك يتم تغييره من خلال منهجية إصلاحية تقوم على نشر فكرة التغيير السلمى والإصلاح. سمعتها من آخر سفراء العراق فى الأممالمتحدة أن صدام حسين أسر إلى وزير خارجيته الأخير حقيقة كاشفة تفسر ما وصل إليه العراق، قال له: إن العراق مثل بالوعة المجارى وأنا غطاؤها، فإذا نزعت الغطاء خرجت الصراصير والفئران والثعابين. وقد كان فقد خرجت فى العراق بعد2003 جميع أنواع الحشرات، بل صدرت لها إيران كل ما فى مجاريها من كائنات لم تعرفها مجارى العراق، وهنا لا يجب التسرع بالقول إن هذا يعنى أن عصر صدام كان الأفضل، بل قد يكون هو السبب فى وجود كل تلك الحشرات والقوارض فى المجارى بسبب دكتاتوريته، وطغيانه وخنقه للحريات، ويجب ألا يتسرع البعض بأن هذا الكلام يدعو للسكوت على الظلم والطغيان والدكتاتورية، بل على العكس يجب التخلص من ذلك بصورة مطلقة، ولكن بوسائل أخرى غير التغيير الفجائى العنيف المعروف باسم الثورات، أو التدخلات الخارجية لتغيير النظم السياسية بالقوة المسلحة. نفس الأمر ينطبق على ليبيا، فعلى الرغم من كل مساوئ القذافى فإن التغيير العنيف بثورة ثيران من الداخل، وتدخلات الناتو وقطر وتركيا من الخارج جعلت الشعب الليبى فى حال أسوأ ملايين المرات، مما كان عليه تحت طغيان القذافي، وكان المستفيد الوحيد من ذلك التغيير مجموعة من لصوص المجتمعات وسارقى أحلام الأمم، وناهبى ثرواتها من الذين يتدثرون بعباءة الدين لتبرير جرائمهم من أعضاء تنظيم الإخوان الفاشل، والحركات المنبثقة عنه، أو التى تقلده من السلفيين وغيرهم. أما حالة مصر فقصة أخرى فيها كل تعقيدات تاريخ مصر وثقافتها، فمنذ عصر الانفتاح المشؤوم فى منتصف السبعينيات؛ والمجتمع المصرى دخل فى مرحلة انحدار أخلاقى كان جوهرها مقايضة الثروة بالقيم والأخلاق والأعراف والتقاليد، وانتشر شعار «اللى تغلب به إلعب به» وظهر لأول مرة بصورة ملحوظة أن هناك من يقايض شرفه بالمال، وظل هذا الانحدار الأخلاقى مستمراً ومتزايداً طوال فترة الرئيس مبارك التى كانت أسوأ عصور مصر منذ محمد على باشا بعد عصر الخديوى توفيق. استمر هذا الانحدار الأخلاقى مندفعاً بصورة عنيفة، ومتوسعاً فى مختلف المجالات، وبفضل انتشار وسائل الإعلام؛ خصوصاً التليفزيون تمدد إلى مختلف مناطق مصر بما فيها الصعيد الذى يمثل المخزون القيمى لمصر على حد تعبير الكاتب الراحل لويس عوض، ففى منتصف الثمانينيات سمعت أستاذنا الدكتور على الدين هلال يقول قريبا سوف نضطر إلى القول إن هذا قاضٍ عادل، وأن ذاك أستاذ جامعى مثقف، وذلك لأن صفة العدل سوف تتراجع وكذلك الثقافة فى الأستاذ الجامعي، وبعدها فى أوائل التسعينيات رأيت الدكتور أحمد المجذوب الأستاذ فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية يصرخ محذراً من الإيدز الاجتماعى الذى ينتشر فى مصر، حيث المجتمع فقد مناعته الأخلاقية. وفى 2011 جاءت الثورة التى لم تنطلق من فكرة ولم تكن لها قيادة، حركة عفوية دفع لها فساد نظام مبارك، وجبروت طغيانه، وانسداد الأفق أمام ملايين الشباب بسبب قيادة هرمة، وحزب من الرأسمالية المتوحشة، وجهاز بيروقراطى بلغ ذروة الفساد الإدارى والمالي، جاءت ثورة يناير كحلم ليلة صيف، أو سراب نهار شديد الحرارة، رأى فيها الغالب الأعم من المصريين أملا جديدا، وفتحاً للمستقبل، ثم انقضت عليها طيور الظلام من تنظيم الإخوان الفاشل، وغربان التدين المستورد من وراء البحر الأحمر، وحولوها إلى غنيمة، ترافق معهم الحرافيش واللصوص والشطار الذين استغلوا حالة الفوضى التى تزامنت مع الثورة ولحقتها، خصوصاً مع اختفاء وزارة الداخلية لفترة سواء بالعمد أو الاضطرار، تحولت مصر إلى ساحة للسرقة والاختطاف والاغتصاب، وتحولت بيوت المصريين إلى سجون، حين تمت إضافة باب من الحديد الفولاذى أمام الباب الخشبى على كل بيت، انتشر الخوف، وانطلقت وحوش البشر تنهش فى البشر، وتضخم الفساد والاحتكار والغش، ولم يعد المصرى آمنا فى بيته، ولا على أسرته، ولا مطمئناً على طعامه أو شرابه، ولا قادراً على مواكبة جشع التجار وفساد الإدارة وتوحش أمناء الشرطة. تحولت حياة المصريين إلى كابوس مرعب مخيف، ثم تكيفوا مع هذا الكابوس واستبطنوه داخلهم، فانتشرت المخدرات بكل أنواعها، ودخل المجتمع فى حالة نفسية مرعبة، تحول فيها الانحدار الأخلاقى والقيمى إلى أسلوب حياة، ونمط عيش لا يراه الناس غريبا إلى درجة تحولت فيها الجامعة الأولى فى مصر إلى عزبة خاصة لتحقيق أحلام رئيسها فى منصب وزارى من خلال تدمير كل قيمها وأعرافها وتحول الأستاذ إلى تاجر أو مراهق، وحقيقة التاريخ أن الدول تنهض بالعلم وأن الجامعات هى بيوت العلم ومعابده، وليست مراكز تدريب لتخريج عاطلين، ولا مراكز محو أمية لمنح شهادات. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;