الرياضة والسياسة والمال ثُلاثية لا يمكن الفصم بينها، ومهما قيل عن أن الرياضة تُبنى وتُلعب على أسس أخلاقية ومبادئ اللعب النظيف والابتعاد عن المؤثرات السياسية، ففى كثير من الامثلة ما يدحض هذه المقولات بقوة، ويؤكد أن المال الفاسد ووراءه السياسة المعجونة بالكذب والرشوة كفيلان بأن يقتلا أى مبدأ أو ميزة أخلاقية فى هذه الرياضة وفى غيرها من المجالات. والمشكلة أن هناك الكثير من الفاسدين من ذوى القبعات الخفية منتشرين فى الكثير من المنظمات الدولية ذات الصبغة العولمية والتى تفرض مواقفها وحججها عنوة على باقى الأعضاء فى العالم كله، وهم الذين يُسيرون ويغطون كل شىء ما دام هناك مال فاسد يُدس فى الجيوب دون رقابة من ضمير أو فاعلية من قانون أو شفافية فى الإعلام. فكل فاسد وسفيه يملك المال يمكن أن يجد المخرج بكل سهولة ويسر. الفيفا المسيطر على كرة القدم فى العالم كله، حول اللعبة إلى تجارة واستثمارات واحتكارات وتدفقات مالية بالملايين ثم المليارات، يتحدث عن قواعد اللعب النظيف ويفرض قواعده على كل أندية العالم وإلا خرجت من جنته، وفى الحقيقة والواقع قتل اللعبة الشعبية الأولى فى العالم وحولها الى تجارة تفوق مكاسبها تجارة المخدرات والادوية بمستويات عالية. وفى المدى القريب وإن لم يتحرك العقلاء سيقتل الفيفا اللعبة وكل من يقترب منها. إدعاءات وقضايا الفساد فى الفيفا ليست خيالا ولكنها واقع مُعترف به ومحل تحقيقات فى الخفاء وربما لن تظهر نتائج تلك التحقيقات إلا بعد عقود وحتى يختفى المتورطون فيها، وهم كُثر بداية من رؤساء وملوك وأمراء ومرورا بأعضاء كبار فى الفيفا نفسه ونهاية بوكلاء ومحامين يتلاعبون بكل شىء، وفى النهاية يحصل كل منهم على نصيبه المقسوم. أما اللعبة نفسها فلتذهب إلى الجحيم. وما يُقال عن خلفيات ورشاوى بملايين الدولارات وتدخلات سياسية عليا أحاطت بملف قطر للفوز بتنظيم كأس العالم 2022، كثير وبعضه أقرب إلى اليقين المُحكم، وخلاصته أن المال الفاسد يقتل القيم والمبادئ ويضيع الحقوق، ويعطى سمات وميزات لمن لا يستحق. قبل صفقة اللاعب البرازيلى نيمار، وانتقاله من برشلونة الاسبانى إلى النادى الفرنسى باريس سان جيرمان، لم تكن الأمور وردية فى عالم كرة القدم والمال كان يلعب دوره، ولكن بدا أن الأمور تحت السيطرة وفى نطاق المعقول. أما بعد الصفقة فالأمر بات مختلفا، فالمال هنا ليس مالا نظيفا، ولكنه مال فاسد ملعون سوف يقضى على ما بقى من كرة القدم، لقد غاب المعقول تماما وظهر الجنون فى أبهى صوره. ومهما تكن قدرات اللاعب ومهاراته على البساط الأخضر، فهل يستحق 720 مليون يورو تكفى لبناء 5000 مدرسة على أعلى المستويات، يتعلم فيها ستة ملايين طفل على الأقل؟ وهل يُعقل أن يحصل هذا اللاعب على منحة بقيمة 300 مليون يورو لكى يكون سفيرا للترويج لمونديال 2022 فى قطر ليدفع منها 222 مليون يورو قيمة الشرط الجزائى فى عقده مع برشلونة الاسبانى، ثم يحصل على 30 مليون يورو سنويا ولمدة خمس سنوات، خالصة من الضرائب التى سوف يتحملها النادى الباريسى، ولن تقل عن 22 مليون يورو سنويا حسب تقديرات الضرائب الفرنسية التى تفرض ضريبة على الدخل تصل الى 69 فى المائة لاصحاب الدخول العالية، ناهيك عن منحة توقيع قيمتها 100 مليون يورو للاعب، بالاضافة الى عمولة أخرى سوف تخصص لوالد اللاعب باعتباره وكيله الرسمى. إنها صفقة السفه والجنون، سفه الإنفاق وجنون العظمة التى تتلبس المسئولين القطريين، والذين يديرون صندوق قطر السيادى، والذى تتبعه مؤسسة قطر للاستثمارات الرياضية التى دفعت مبلغ 300 مليون ورو لللاعب للخروج من مأزق قواعد اللعب النظيف التى تفرض ألا يستثمر النادى فى شراء اللاعبين أكثر مما يستطيع أن يجنيه فى العام. وهى قاعدة تم التلاعب بها على مرأى ومسمع من العالم كله، وليس أمام الفيفا إلا الصمت والخذلان. فقد تغلب المال القطرى من قبل وهو هنا يتغلب مرة أخرى. المُحزن أن هذا السفه الذى يجعل أصحابه محل محاسبة وعزل ووضع فى مشافى المجانين، يُعد مصدرا للتباهى القطرى، باعتباره سلوكا يعكس القدرة على شراء كل شىء بالمال الذى لاحدود له، ودليلا على أن ما يصفونه بحصار الأشقاء الخليجيين لم يؤثر على قدرات الاقتصاد القطرى، وأن قوة قطر الناعمة لا يقف أمامها أحد فى الرياضة وفى أشياء أخرى عديدة. وما كان ليحدث ذلك دون ضعف الفيفا وتدخلات السياسة لاسيما من فرنسا. فتجربة الفيفا نموذج فج للمؤسسات العولمية، لا تهتم إلا بالمكاسب أيا كانت الوسائل، ولا تهتم بمجال النشاط الذى أقيمت من أجله إلا فى حدوده الدنيا. يقول مسئولو الفيفا ويتباهون بأنهم جعلوا اللعبة مجالا لتوليد النقود بكميات يصعب حصرها، وجعلوا اللاعبين الموهوبين مُحاطين بالمعجبين من كل أنحاء العالم، وجعلوا المشجعين يدفعون المبالغ للمشاهدة وهم راضون وغير متذمرين. وجعلوا من يملك يستطيع أن يتلاعب بكل شىء وأن يجنى أرباحا مضاعفة لا حدود لها. تلك معاييرهم فى النجاح، معايير رأسمالية قائمة على أكثر المبادئ استغلالا لحاجة الناس فى المتعة البريئة. واقع الحال أن سطوة الفيفا على اللعبة أصبحت مصدرا للقلق لكل عاشقيها، سواء لاعبين ومدربين أو مشجعين، وللأسف الشديد ليتها سطوة مصحوبة بقيم ومبادئ تشجع اللعب النظيف والمتعة البريئة، بل سطوة معجونة بالفساد بكل أنواعه. نحن أمام نموذج عولمى لمنظمة ظهرت أهلية لتنظيم لعبة يعشقها ملايين الناس، ثم تحولت الى وحش عملاق، وسطا عليها من حولوها الى تجارة دون تنظيم محكم، وانتهى الحال بأن تحكم المال دون قيد أو شرط. من لديه المال سوف يفعل ما يريد، ومن لديه الداعمون السياسيون قصيرو النظر سيحصل على كل شىء، ومن لديه المحامين المتلاعبين بالقوانين والقواعد سيحكمون كل شئ، ومن لديه الوكلاء منزوعو الضمير سيمكنه أن يقضى على أى منافسة. علينا الا ننتظر فى ظل مناخ كهذا أن تنتعش كرة القدم كمجال للمنافسة الشريفة، بل ننتظر موت أندية عريقة وهرولة نحو العمولات والصفقات المشبوهة والأموال المغسولة بلا حساب. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب;