من وحى السيرة الهلالية وملاحمها يستلهم الكاتب «أحمد سراج» نصه «بطل الغروب» الواقع ضمن الكتاب المسرحى «نصوص الأرض» الصادر مؤخرًا عن دار الأدهم للنشر والتوزيع. وتتكون المسرحية من فصلين، وكل فصل ثلاثة مشاهد، ويجمع النص عشر شخصيات رئيسية فى السيرة الهلالية. ..................................................... ويبدأ بكابوس يطارد الزناتي، يحلم خلاله بأنه يسلم تونس وعرشها لبنى هلال، وترفض «سعدي» وحدها هذا التنازل وتدفع أبيها للمقاومة، الذى يبدو فى مشهد مزرٍ وموقف متخاذلٍ يتعارض مع صورة الزناتى التى يعرفها الجميع، وتظهر فى المشاهد التالية مقاومة شامخة. وفى المشهد الثانى يقف الزناتى منتظرًا أن تُخرجه القُرعة ليحاربه، فيما يتآمر الهلالية ليخرجوا له ضيفهم الغريب «الخفاجى عامر» الذى ترك ملك العراق وأبوين كبيرين ورحل معهم إلى تونس لمساعدة الهلالية فى حربهم، وتخليص سجنائهم الثلاثة (مرعى ويحيى ويونس) لكن أبا زيد يرفض الدفع بعامر للمعركة ويبعد الورقة التى خرجت وفيها اسمه، وتعاد القُرعة المزورة ليخرج اسم «عامر». الجازية (تنظر للقاضي، ثم تقول فى تمثيل): «أعدها ما دام هذا يريح أبا ريا (يتردد القاضى قليلاً، ثم يبدأ فى إجراء القرعة). القاضي: الخفاجى عامر.. أبوزيد: كيف؟ القاضي: كما أخرجت القُرعة سيدنا يونس ثلاث مرات ليلقى للحوت.. اعترض على قضاء ربنا.. اعترض.. السلطان حسن: (ينادي) تعال صامتًا يا أبا زيد (يتوجه أبوزيد والجازية إلى السلطان، فيما يتحرك الخفاجى إلى أرض المعركة وطبول الهلالية تدق). أبو زيد: (وهو يفتح يده) هذه هى الورقة التى فيها اسمه.. فكيف خرج ثانية؟ السلطان حسن:(باستغراب) ماذا؟ الجازية: (فى همس) بعد المعركة نتكلم. ويلتقى البطلان؛ (الزناتي، والخفاجي) يتحاوران ويتحاربان وينفصلان لا غالب ولا مغلوب، لكن عامر تمكن من جرح الزناتى فى جسده، والزناتى تمكن من جرح الخفاجى فى روحه. يجعلنا هذا نتساءل: أهذا المشهد سابق لمشهد الكابوس؟ أم أن الكاتب أراد فى المشهد الأول تقديم صورة متخيلة لأحداث السيرة بشكل مختلف؟ أم أن المشهد الأول يمثل صدمة وتشويقا يجعلان القارئ/ المشاهد منتظرا أن يضع هذا المشهد فى مكانه من المسرحية؟ فى المشهد الثالث تحاول «ذؤابة» ابنة «عامر» أن تُثنيه عن العودة لقتال الزناتى لكنه يصر وفاءً لكرامته كبطل شجاع، وعبثًا تحاول البنت رغم أن عامر يقع تحت ضغط نفسى شديد، يبدو فى حواره معها، وفى حواره الخاص مع صديقه «أبى زيد». عامر: لا أستطيعُ.. ذؤابة: أبي، تستطيعُ... عامر: غَدًا أو بعدَ غدٍ سيقفُ الزناتى على قدميه، ولن يقفَ له أحدٌ، ولن يقبلَ إلا مقاتلتى (يقف، فتقف) ... عامر: صدقنى يا أبا زيد، أنحن على صوابٍ فى قتالنا هذا الرجل؟ (يضع أبو زيد رأسه فى الأرض صامتًا) لا أراه مخطئًا؛ بل كلما جاءتنى صورته وجدتنى صغيرًا، هذا رجل يدافع عن حدوده ويحمى نساءه.. ونحن... أبو زيد: ما فهمنى أحدٌ حين شئت منعكَ عن قتاله؛ فالكريم يعرف معدن الكريم.. ذؤابة: وإن كان عدوًّا! فى الفصل الثانى يظهر الزناتى مصرًا على القيام بواجباته رغم جراحه العميقة، وأنينه المكتوم؛ فينزل لصلاة الفجر، ويستعد للقتال مجهزًا خطة جديدة، ويظهر له أبا زيد متنكرًا وسرعان ما يكشف له الزناتى حقيقته، ويعرض عليه الهلالى مداواته فى الظاهر لأن الزناتى يرسل الطعام لأطفال الهلالية وشيوخها، وفى الباطن لينزل الزناتى بجروحه للمعركة فيقتله «عامر» ويحاول الهلالى تبرير غزوة بالجدب، فيبين له الزناتى أن «الجوار» لم يمنع، لكن للبدوى المحارب رأيا آخر. الزناتي: لو أردتم جوارنا ما منعناكم.. أبو زيد: ما يؤخذُ بالسيف لا يوهب.. الزناتي: فكيف تطلبُ ممن حالت صفرةُ بلادِهم سوادًا وخضرة أن ينزلوا عنها.. ما خرج بالعرق والعمر لا يترك.. أيقظ أجدادنا يتنازلون عن عرَقهم.. ها هو القصر.. تعال. يلتقى الفارسان مرة أخري، تنجح مكيدة الزناتي؛ إذ يتظاهر بالفرار من أمام عامر الذى ينخدع رغم صيحات «أبى زيد»، ويندفع خلف الزناتى فيأتى من ظهره «مطاوع» قريب الزناتى ويطعنه بالرمح فى ظهره فيسقط صريعًا، ويرفض الزناتى الإجهاز عليه. ويستعين الكاتب هنا بما يرويه شاعر السيرة الهلالية فى وصف هذا الموقف- محافظا على جماليات العامية فى السيرة وجماليات الفصحى فى نصه المسرحي، وتبدو «ذؤابة» فى حالة شديدة من الحزن، ويحاول الهلالى إنقاذ الخفاجى دون جدوى الذى يرى «طير العراق المهاجر» فيرثى نفسه، ويحمل الطير رسالة، وهنا يستعين الكاتب بالنص الشفهى للشاعر جابر أبوحسين: أمانَه يا وِز العِراقِ وطِّى أكلمكْ ياللى على الغُربه تِتَنِ صبورْ تِرعى مَرَاعِى النيل تِسعينَ لَيلَه وتِرجَعْ بلادك فى هنا وِسْرور فإذَا اِن وصلت تلكِ الِبلادِ وَحِيِّنَا سَلِّمْ على أهلى وخُش السور فى المشهد نفسه يرفض الزناتى الاحتفال، ويكشف لوزيره العلام خيانته وتآمره مع الهلالية، ويمجد الخفاجى ويتمنى لو استطاع دفنه فى تونس. فى المشهد السادس والأخير، يظهر «دياب بن غانم» ويعلم الزناتى أنه سيقتله، ويسخر منه الزناتي، لكن دياب يتمكن من طعن الزناتى فى عينه وسحبه على الأرض حتى مضارب الهلالية؛ فيقوم «أبوزيد» بنزع الحربة من عينه، ويتظاهر بمداواته وإن كان فى الحقيقة يضع سمًّا قاتلا فى عين الزناتي، الذى يقف صامدا رغم جراحه: أبوزيد: طعنة دياب ليست قاتلة.. سامحنى يا زناتي.. إنها الحرب.. ولم يعد من سبيلٍ.. داويتك لتتماسك أمام الخفاجى فقتلته.. سامحني.. الزناتي: بل سامحينى يا تونس.. (يدفع السلطانَ حسن الذى يختفى فى الظلام، يعبر الزناتى الجازية التى يبتلعها الظلام، يترنح فيحاول أبوزيد سنده، فيدفعه للظلام، لا يبقى سوى الزناتى فى النور، يركع على ركبته) سامحينى يا تونس.. سامحنى يا طمي.. واذكر أننى لم أخن.. وأننى أموت برمح عدو غادر، وبسمه الفاتك.. سامحينى يا حرائر تونس.. سامحونى يا شيوخها.. (يخرج الصرتين من جنبيه، ويشمهما) يا تراب تونس.. سامح ابنك.. وعدتُ بأن أحميكَ وما وفيتُ.. فسامحني. ولعل موت الفارسين خيانةً، يترك أثرًا مفجعًا فى نفس القراء؛ فكما يحتفل النص المسرحى والسيرة الهلالية بمقتل «الخفاجي» يحتفلان بمقتل «الزناتي» ويجعلانهما يرثيان أنفسهما رثاء مؤثرًا، فيرثى الخفاجى نفسه من خلال مخاطبا الطير – لكن النص المسرحى يكتفى بحالة المراجعة والندم – فيما يلتفت فى رثاء الزناتى إلى إحساس الزناتى بأنه مقصر رغم تضحيته بحياته؛ لأنه لم يستطع رد الغزاة. استطاع أحمد سراج أن يقدم رؤية جديدة لأحداث السيرة الهلالية التى تنقسم إلى أربعة أبواب رئيسية أو دواوين أو أجزاء هي؛ المواليد، والريادة، والتغريبة، والأيتام، وتملأ آلاف الصفحات، وتروى فى آلاف الليالي، وتفرعت منها سير أخرى مثل عزيزة ويونس والزناتى خليفة الخفاجى عامر والجازية، وتنقسم السيرة إلى مادة سردية نثرية قصيرة، وقصائد شعرية طويلة كما فى الوجه البحري، وعلى شكل المربع الموزون المقفى كما فى صعيد مصر، والسيرة «هى المأثورة الشعبية الوحيدة فى العالم التى يرويها الشعب حتى الآن» وفق تقرير منظمة اليونسكو. واختلف «أحمد سراج» عن كل كتاب المسرح الذين استلهموا السيرة الهلالية وعلى رأسهم بيرم التونسي؛ فقد استطاع أن يكثف أحداث السيرة الهلالية فى ستة مشاهد فصحى بلغة شعرية، وبحس تراجيدى عالٍ يرقى إلى حس المآسى الكبري، متوقفا عند بطلين هما «الزناتي» و«الخفاجي» وهما يلخصان مأزق الإنسان العربى ومحنته الوجودية حتى الآن، وفى لغة شعرية رصينة تخلو من المباشرة، حيث يخترق كما يقول الشاعر الكبير رفعت سلام: «بلا شعارات، أو خطابة، يخترق أحمد سراج مسرحيًّا قلب المعضلة المصيرية المزدوجة، التى تواجه راهننا المصري/العربي؛ الدفاع عن الأرض/الوطن، ومشروعية السلطة الحاكمة؛ بحنكة إبداعية فريدة، تُذكِّر بالقامات المؤسسة للمسرح العربى الحديث: محمود دياب، سعدالله ونُّوس، ألفريد فرج، عز الدين المدني، وسواهم. فهو لا يبدأ من الصِّفر، بل من حيث انتهوا؛ ليكمل مسيرةً رصينة، مؤرقة، كانت قد انقطعت برحيلهم». ونشير إلى أن «سراج» حرص على تجنب الصيغة «السامرية» التى اتسمت بها أعمال مسرحية سابقة استلهمت السيرة الهلالية، ولجأ إلى اللوحات التعبيرية من خلال أسلوبه الشعرى الموحى واللاهث فى الوقت نفسه؛ بما يجعل نصًّا أدبيًّا راقيًا افتقدناه فى الساحة المسرحية التى تطارد النص المسرحى الأدبى منذ سنين، وتطارده فى كل مسرح لتقضى عليه، ولتحتل مكانه التفاهات التى تغيب الوعى وتفسد الذائقة الجمالية لدى عامة الناس، وتدمر ما تبقى لدينا من أدب المسرح ذى القيمة، وهذا النص يشير إلى عمق ودراسة كاتبه المستفيضة للموضوع الذى يتناوله وبحس صاحب رؤية شفافة فى جوهر أحداث السيرة دون أن يغرق فى بحورها العميقة.