هذا حديث عن مهنة يقول البعض أنها مهددة وربما تنقرض بينما مؤشرات الواقع تبدو مختلفة.. في مقال بصحيفة «صنداي تليجراف» البريطانية في مارس الماضي بعنوان «لا تزال الصحف موثوق فيها وسط ثورة وسائل التواصل الاجتماعي»، قال سير مارتن سوريل الملقب ب «ميسي صناعة الإعلان والعلاقات العامة» في العالم- راتبه يفوق 100 مليون جنيه إسترليني سنوياً- إن الصحف الورقية مازالت مصادر جديرة بالثقة وسط بحر من المعلومات الرقمية الخاطئة بوصفها تقف حارسا وجهة مسئولة عن مصالح المعلنين أكثر من غيرها. وأوضح سوريل أن «العيوب المدركة والحقيقية في الإعلام الرقمي هي مصدر محتمل لميزة تنافسية للصحف - في كل من المطبوع والأشكال الرقمية للصحف». ويواصل قائلا: «نظرا لأن جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها يواجهون اتهامات بتحولهم إلي منصات للكراهية والأخبار المزيفة.. فإن عدم الثقة في المعلومات التي تتم مشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يزيد من شهية الجمهور لمتابعة الوسائل التقليدية الأكثر مصداقية». ويقول سوريل إن أحدث الأبحاث تكشف عن أن الصحف يمكن أن تزيد من فعالية الحملات الإعلانية بنسبة 300 ٪. كما يشير إلي أن الدراسات العالمية تبين أن الناس أكثر انخراطا وإندماجاً مع محتوي الصحف أكثر من استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة وهو يعتبر أن هذا الأمر هو أحد الاعتبارات المهمة للمعلنين الذين يبحثون عن اهتمامات المستهلكين والوصول إلى محافظ أموالهم. في تقرير شهر إبريل لجامعة فورتسبورج الألمانية، إرتفعت درجة ثقة القراء في الصحافة التقليدية في ألمانيا في وقت تسود فيه حالة من الشك إزاء وسائل الإعلام في أجزاء كثيرة من العالم الغربي. فوفق التقرير، قال 55.7٪ من الجمهور أنهم يثقون في الصحافة التقليدية بزيادة قدرها 10 نقاط مئوية عن عام 2015. ومن المثير للإهتمام، تحسن موقف الصحافة التقليدية نسبيا بين صغار السن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 عاما، فقد أعرب 6 من كل 10 أشخاص عن ثقتهم في الصحافة الورقية في عام 2016. وقالت الدراسة أن ثقة الألمان في وسائل الإعلام ارتفعت بشكل حاد في العام الماضي وهو أعلى مستوى من الثقة منذ إجراء المسح لأول مرة في عام 2000. من ناحية أخرى، لا يضع 38.8 ٪ ثقتهم في الأخبار التي يتلقونها من الصحافة المطبوعة بما يعني أن الأغلبية قد تضع ثقتها في الصحافة الورقية فعلياً. وقال البروفيسور كيم أوتو، أحد المشرفين علي الدراسة، إن النتائج تظهر أن الناس لديهم تقدير أكبر لقيمة وسائل الإعلام الراسخة في عصر التقارير الإخبارية «الوهمية» التي تنتشر من خلال وسائل الاعلام الاجتماعي. وأظهر التقرير أن أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 أقل احتمالا للثقة في الصحافة المطبوعة، حيث يمنح واحد فقط من بين كل إثنين ثقته في الصحيفة الورقية، بينما ثلثا من تجاوزت أعمارهم 75 عاما تزيد درجة ثقتهم فى الصحف. ومن التفسيرات لتلك الحالة أن ألمانيا قد تكون أقل عرضة للأخبار الوهمية Fake News من بلدان أخري مثل الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة، وذلك لتفضيل المستهلكين هناك للصحف والتلفزيون العام كمصادر رئيسية للمعلومات السياسية. في توقيت متزامن، أظهرت نتائج مسح لمجموعة إيبسوس في الولاياتالمتحدة أن الأغلبية بين البالغين الأمريكيين حصلوا علي الأخبار من «فيسبوك» في الشهر الماضي، ولكنهم «متشككون جداً» إزاء الثقة في مصداقية المعلومات على الموقع الإجتماعي الشهير. وبشكل عام، قال 39 ٪ من المواطنين أنهم يحصلون علي أخبارهم من الصحف الورقية. من خلال هذا المقياس، فيسبوك - وسائل الإعلام الاجتماعي عموماً- كان في أدنى درجات الثقة من أي منصة لإعلامية أخري مثلما أشار الجمهور الذين حصلوا على الأخبار من تلك الوسيلة. على النقيض من ذلك، قال 74 ٪ ممن تلقوا أخباراً من الصحف المطبوعة، إنهم يثقون بالأخبار من تلك المنصة طوال الوقت أو في معظم الحالات. وقد أثارت الدراسة، ولكن لا دون أن تجيب، أسئلة مهمة: هل يرى الجمهور موقع «فيسبوك» مصدراً للأخبار في حد ذاته؟ أو هل تعكس درجات الثقة المنخفضة حقيقة أن الأخبار في الفيسبوك تأتي من مجموعة متنوعة من المصادر والناشرين مع مصداقية ومعايير مختلفة؟ في دراسة حول سوق الإعلان لمؤسسة «ماركيتشيربا»، أكثر من أربعة من أصل خمسة أمريكيين (82 ٪) يثقون في الإعلانات المنشورة (في الصحف والمجلات) من أشكال الإعلانات التقليدية الأخرى. ووجد الاستطلاع أن 80 ٪ أو أكثر من مستخدمي الإنترنت يثقون في الإعلانات المطبوعة في الصحف والمجلات والإعلانات التلفزيونية عند اتخاذ خيارات الشراء، فيما لم تحظ الإعلانات الرقمية علي نسبة كبيرة. فقد قال 39 ٪ من عينة الجمهور أنهم يثقون في إعلانات «بانر» عبر الإنترنت، بينما قال 39 ٪ أخرين أنهم يثقون في إعلانات الهاتف المحمول. يعني ما سبق: - الصحف الورقية قادرة علي تطوير نفسها بعد أن صمدت في وجه الموجة الكاسحة لمواقع التواصل والإعلام الجديد. - الإعلان في الصحف الورقية يمس سيكولوجية القاريء (المستهلك) من باب الثقة والمصداقية أكثر من غيره. - عادات القراءة لدي شرائح المجتمع قابلة للتغير، فلا يمكن التعميم في مسألة عزوف الشباب عن الصحافة الورقية. - الجمهور يبحث عن المصداقية في الإعلام التقليدي لأنه يمثل القيم الراسخة في مهنة الإخبار والإعلام لعدة قرون. - كل وسيلة تستطيع أن تنافس في صناعة الخبر بالإحترافية والمصداقية معا- وليس فقط بسرعة جلب الأخبار. لو طبقنا ما سبق علي مصر، سنجد الصحافة الورقية تمثل عمود الخيمة في صناعة الأخبار ومصداقيتها.. وما سبق من أمثلة ورغم تباين الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية مقارنة بدول أخري يشير إلي أن الحرفية العالية والمصداقية هما عنوانان بارزان للقدرة علي الفوز بقلب وعقل القاريء وأن صناعة الإعلان عالمياً ستظل بمثابة المؤشر للسوق المحلي ولا يمكن أن نتحدث عن إنهيار أو سقوط للصحافة الورقية لأنها مازالت الحارس عل قيم ومعايير مهنة الإعلام بشكل عام! [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;