كتب قليلة هى التى تقف فى الحلق لا تستطيع أن تنساها، كما لا تستطيع أن تفهم تفاصيل أبعادها وتضاعيف مقاصدها ومن هذه الكتب «شبرا إسكندرية صغيرة فى القاهرة» للكاتب والمؤرخ محمد عفيفي. والصادر عن الهيئة المصرية العامة. الكتاب لا يحتاج مقدمات بقدر ما يحتاج إلى إفاقة حقيقية ، ومشروع فكرى مواز، جاد وعميق وواع بأهمية وقيمة هذا اللون من الكتابة وأثره فى الهوية والمواطنة، وإلا فسوف يأتى يوم تُسلب فيه مصر من هويتها ومن أبنائها وتفقد سبيكتها الحضارية الواحدة؛ من هذا التجسيد يكتسب الكتاب أهميته، الوطن هو البطل، والفرد هو النموذج، وهو مصدر كل طاقة وعبقرية وإبداع والكتاب هنا نمط من التأليف يشبه كتب فضائل البلدان التى كتبها مؤرخو كل بلد من البلاد العربية والإسلامية تفاخراً ببلدهم واعتزازًا بأرضهم ومسقط رأسهم، ومنافسة لعلماء البلاد الأخرى وفنانيها. مع شبرا التى وصفها بأنها «إسكندرية صغيرة فى القاهرة» رافضًا الواقع ومحاولة منه لإعادة صياغته من جديد؛ لأنها تستحق أن تبقى فى الحقيقة والجمال. فالأسطورة القديمة تحكى أن لشبرا منذ قيامها موقعًا مميزًا، ومناخًا معتدلا وطبيعة خضراء. وقيام القصور الملكية ذات الطراز المعمارى الفريد والمدهش فى آن، وسط هذا السكون يشكل مقياسًا ونقطة جذب تعكس بوضوح إحساس الدهشة الذى لابد أن المستشرقين والفنانين الأوائل قد عايشوه، وهم يرون تلك القصور العتيقة المتفردة فى أشكالها، والمتناسقة فى معالمها المتألقة تحت الأشعة الذهبية لتظهر تفرد الشخصية المصرية فى الحى العجيب لتشكل تفاصيله كتابا مفتوحا يروى «تاريخ شبرا» وربما تاريخ الوطن بكل ما يحمله من أحداث وعادات وطقوس وفن وجمال وتعدد وتباين وتعايش وأفندية، باشوات وخواجات بكلمات كُتاب أوروبا وأكثر أدبائها شهرة وحيادية. وتصف أفكار هذا الكتاب الذى يعيد قراءة موروثه وجذوره بالكلمة والصورة ليستعيد همسات الماضى الدافئة للمدينة، يحكى سيرة شبراوى وعلاقته بالمكان الأول، وبالحب الأول، وباللون الأول. ليس من مهمته أن يعيد «تصوير ماضى شبرا العريق»، أو أن يحكى ماذا حدث، وإنما كانت مهمته وهمه أن يفهم لماذا حدث ما حدث، ومدى تأثير هذا الذى حدث فى الماضى على حاضر الحى ومستقبله أو بمعنى أدق حاضر الوطن ومستقبله. وهو هنا يستعيد موقفًا منهجيًا نقديًا ساقه الشاعر «أدونيس» ومفاده » أننا إن لم نعد قادرين على قراءة موروثاتنا، فهذه الموروثات هى التى ستقرأنا، وعندما تقرأنا موروثاتنا فهذا يعنى أننا لسنا أحياء، فالحى يعيد قراءة تراثه فى ضوء ما يعيشه، وفى ضوء المستقبل، وإلا فسيتحول التراث إلى مُثلٍ جامدة لا علاقة لها بالحياة والتجربة والواقع». الكتاب واحد من تلك الدرر التى يصنعها أدب الاعتراف، لتسد فى حياتنا الأدبية، منذ «الأيام» لطه حسين، حتى «رحيق العمر» لجلال أمين وجوه النقص، والثغرات التى تطرأ على استمرارية الحياة الثقافية واتصاله. إنه ليس عن الطفولة فقط، ولكنه عن الصبى، تلك السنوات التى تسكن بين الطفولة والشباب، وهو أيضًا عن مرحلة حساسة ومليئة بالأحداث من تاريخ مصر، ولكن المؤلف يحدثنا عن شئ آخر غير سياسات القادة وخطب وأطماع الزعماء، ودسائس القصور، إنه يحدثنا عن المواطن العادى ولدوره فى صنع التاريخ، بمنهج جديد فى الكتابة التاريخية فى مصر، يعتمد على السرد الذاتى ومناهج التاريخ الشفاهى الذى يتميز بخاصيتين تبدوان متناقضتين: أولاهما أنه يحمل أفكاراً ثابتة تشكل المنحى الثقافى للمجتمع، وثانيتهما أنه يحمل أيضًا تفسيرات لهذه الأفكار الثابتة تتجدد مع كل حقبة زمنية، وبالتالى فكتاب «شبرا» ليس بكتاب حنين، بل كتاب يروى قراءة شعبية لسيرة وطن فيها من الوجع والخيبة ، من الحب والمرارة معًا أكثر ما فيها من الفرح تعبر عن غدر الزمان «بشبرا» التى تعرضت لموجة من القُبح هى الأشرس والأعنف لمحو تاريخها المعمارى والأثري، باختصار، فإن العين لا تشبع من التنزُّه الحر فى كتاب «شبرا» دون ادِّعاء، كتاب يحكى عن حالة انتماء ترتبط بالمنبت الذى يدين له المؤلف محمد عفيفى بمخزون ذاكرته أو كما قلت كتاب يقف فى الحلق فى مكان ما بين العقل والمشاعر. لمزيد من مقالات د. عمرو منير