بكل المعايير لا يمكن وصف الاعتداء الذى وقع يوم الثلاثاء الماضى بأسلحة كيميائية على مدينة خان شيخون بالقرب من أدلب فى سوريا الذى راح ضحيته العشرات من المدنيين الأبرياء، إلا أنه جريمة إنسانية بكل معنى الكلمة. وبنفس المعايير لا يمكن اعتبار العدوان الصاروخى الأمريكى فجر الجمعة الماضى على قاعدة الشعيرات الجوية العسكرية بمدينة حمص إلا جريمة إنسانية أيضاً، لكن هناك اختلافا جذريا بين الجريمتين. فبالنسبة للجريمة الأولى يوجد انقسام واختلاف فى تحديد مرتكبى هذه الجريمة على عكس الجريمة الثانية، فمن ارتكبها اعترف وتباهى بجريمته. فالأمريكيون وحلفاؤهم من الأوروبيين والأتراك والإسرائيليين وبعض الدول العربية يتهمون النظام السورى بأنه من قام بجريمة الاعتداء بالأسلحة الكيميائية على خان شيخون، بناء على مجرد معلومات استخباراتية حسب تقرير لوكالة رويترز (7/4/2017) قال إن مستشارى الاستخبارات العسكرية الأمريكية قدموا للرئيس دونالد ترامب أدلة على «أن الرئيس السورى مسئول عن الهجوم الكيميائى على (خان شيخون)»، وعلى العكس من هذا التقرر تبرئ روسيا الرئيس بشار الأسد والجيش السورى من ارتكاب هذه الجريمة من منظورين الأول جاء على لسان ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية الذى أكد أن «الجيش السورى لا يملك أى أسلحة كيماوية» وأشار إلى أن منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية والوكالات المتخصصة فى الأممالمتحدة تدرك حقيقة تدمير القوات المسلحة السورية لجميع مخزوناتها من الأسلحة الكيميائية. هذا المنظور وإن كان يبعد التهمة عن الجيش السوري، فإنه يلمح إلى أن المعارضة ربما تكون هى من ارتكب هذه الجريمة ويعتبر أن تجاهل ذلك يعد بمثابة جريمة أخري. أما المنظور الثانى فجاء على لسان وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، الذى رفض اتهام الجيش السورى بارتكاب الجريمة استناداً على أن الأمريكيين لم يقدموا أية أدلة مادية جادة تثبت اتهامهم. أما الجريمة الثانية، أى جريمة العدوان الأمريكى الصاروخى على قاعدة «الشعيرات» الجوية العسكرية فهى جريمة كاملة الأركان. بدأت بتصريحات مثيرة للمندوبة الأمريكية فى الأممالمتحدة خلال الجلسة الطارئة التى عقدها مجلس الأمن بناء على طلب أمريكي- بريطانى للبحث فى جريمة الاعتداء بأسلحة كيميائية على مدينة «خان شيخون» أظهرت فيها العزم الأمريكى الأكيد على شن عدوان على سوريا، عندما ألمحت إلى إمكانية التحرك فى سوريا من خارج الإطار الأممي، وعندما قالت إنه «عندما تفشل الأممالمتحدة بشكل دائم فى واجبها بالتصرف بشكل جماعي، فهناك أوقات فى حياة الدول نكون فيها مضطرين للتحرك من تلقاء أنفسنا». يومها أدان الرئيس الأمريكى ترامب ما سماه ب «الهجوم البشع والمريع الذى وقع فى سوريا» وأعلن أن «سلوكه تجاه الأسد قد تغير»، وبعد ذلك بدأت الآلة العسكرية الأمريكية تتحرك، باجتماع ترامب مع كبار مستشاريه العسكريين واختار ما اعتبره الهدف الأقرب إلى ما يريد تحقيقه سياسيا، ووقع العدوان الصاروخى على قاعدة «الشعيرات».. مزاعم الرئيس ترامب أنه «انتصر للعدالة» مفضوحة بالمطلق فدماء أكثر من ستمائة عراقى من أهالى الموصل الذين قتلتهم غارات للطيران الأمريكى منذ ما لا يزيد على ثلاثة أسابيع لم تجف بعد، وهذا ما حرص الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على تعريته، عندما اعتبر هذه الهجمات «محاولة لتشتيت الأنظار عن ضحايا فى العراق». الأمر الواضح والمؤكد أن هذا العدوان الأمريكى على سوريا ليست له أدنى علاقة بالمبادئ والأخلاقيات والقيم الإنسانية، كما أن الملايين التى قتلت والتى هُجِّرت فى سوريا من جانب منظمات إرهابية مدعومة أمريكياً ومن دول إقليمية تساندها واشنطن تنفى مثل تلك المزاعم الأخلاقية، لكن العدوان الأمريكى على سوريا له علاقة مباشرة بالمصالح الأمريكية فى سورياوالعراق. فالعدوان الأخير رغم كونه جريمة مدبرة ومتعمدة ضد سوريا، إلا أنه يمكن اعتباره عدواناً رمزياً فقط، من ناحية لم يتسبب فى خسائر مادية أو بشرية سورية يمكن أن تؤثر سلبيًّا على توازن القوى العسكرى الذى يعمل لمصلحة النظام السورى وحلفائه خاصة روسياوإيران وحزب الله. علاوة على ذلك، أن واشنطن حرصت على إبلاغ روسيا مسبقاً بنواياها العدوانية ضد سوريا التزاماً من جانبها بقواعد التنسيق الجوى المشترك مع روسيا، والأرجح أن روسيا أبلغت المسئولين السوريين، ومن ثم اتخذت الاحتياطيات اللازمة لتقليل الخسائر قدر الإمكان، ومن ثم فإن الهدف الحقيقى لهذا العدوان هو إعلان عودة الولاياتالمتحدة لاعباً أساسياً فى المعادلة السورية، والمشاركة فى عملية اقتسام الغنائم التى بدأ التنازع عليها بين الأطراف الأساسية فى الصراع السوري. كان المتصور قبل أشهر قليلة وبالتحديد قبل مجيء ترامب رئيسًا أن الولاياتالمتحدة قبلت بتقاسم نفوذ مع روسيا فى المنطقة بحيث يكون العراق للأمريكيين وسوريا للروس، لكن الأشهر الأخيرة بدأت تشهد تكثيفًا للوجود العسكرى والاستخباراتى الأمريكى فى شمال سوريا بالتعاون مع ميليشيات قوات «سوريا الديمقراطية» (الكردية والعربية) وأنها تخطط للسيطرة على محافظة الرقة وتحويل عاصمتها إلى «لاس فيجاس الشرق» بعد تطهيرها من ميليشيات تنظيم «داعش»، وأنها تهدف من توسيع نفوذها حاليًّا فى شمال سوريا إلى تحقيق هدفين، أولهما هزيمة «داعش» والإحلال مكانه، وثانيهما تقليص نفوذ إيران. الملفت هنا أن روسيا لم تبدِ اعتراضًا على هذا المسعى الأمريكى خلال الأسابيع الماضية وأن مسرح الأحداث فى سوريا أخذ يتحول إلى مباراة تقسيم مصالح روسية- أمريكية على حساب الحليفين الإقليميين إيران وتركيا. ولعل الزيارة التى من المفترض أن يقوم بها وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون إلى موسكو اليوم الثلاثاء. تؤكد أن هذا العدوان ليس إلا جواز مرور للدخول الأمريكى إلى سوريا وتقاسم النفوذ مع روسيا على حساب سوريا وشعبها ووحدة أراضيها. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;