عودة إلي حديثنا عن الليبرالية وعن جوهرها دون أن ننكفيء علي الاصطلاح ونردده عمال علي بطال ونستخدمه دون ترشيد يحفظ للمضمون معناه ودلالته.. وإذا اتفقنا علي أن المصطلح يعني في أبسط تفسير اتباع المنهج الحر في التفكير أولا ثم يستتبع ذلك بالضرورة جعله ممكنا في التطبيق سواء كان ذلك في النظام السياسي أو النظام الاقتصادي فإننا نطالب بوقفة تتبع الجذر والأصل إذ إن الطبيعي والبديهي هو أن الإنسان ولد حرا ومع ذلك فقصة تطوره عبر القرون تحفل بانتكاسات الحق الطبيعي وتعد سجلا لقتال الانسان الدائم من أجل استعادة هذا الحق.. والقاريء المتمعن للتاريخ سيري أن عصور الاستعباد قد سادت حقبا طويلة ولكن ثورات التمرد عليها ومحاولات التخلص منها لم تنقطع مطلقا وسيري أن القرون الوسيطة في أوروبا مثلا سميت بالعصور المظلمة لأنها كانت حقبة لسيادة الديكتاتورية المطلقة بالتحالف بين أمراء الاقطاع والكنيسة.. دكتاتورية انتفت فيها تماما حريات الانسان الأساسية.. وردا عليها كان الرينسانس أو عصر النهضة أو عصر التنوير.. فكان انتصارا حقيقيا لمعركة الخلاص من الاسترقاق.. وعصر النهضة تأسس علي قاعدة الحرية الفكرية.. والايمان المطلق إلي حد الجموح أحيانا بإطلاق العنان لحرية التعبير والابداع وتحطيم كل أصنام الثوابت الغلامية بما فيها مايسانده المقدس وما استغلته ضلالات الارهاب الكهنوني ومابقي من تراث محاكم التفتيش والاستنطاق والاعتراف.. وهو التراث الرهيب الذي لون صفحات التاريخ الأوروبي بلون الدم وجعله سجلا للعار! وهكذا كانت ردة الفعل المساوية في القوة والمضادة في الاتجاه وتمثلت في الاندفاع في تمجيد الحرية وتقديسها إلي حيث لاحدود إلا حدود الطاقة البشرية المبدعة الخلاقة, وحين ازدهرت حرية التعبير كانت هي السماء التي مهدت التربة وأخصبتها لتنبت منها انجازات الحضارة الغربية العظمي التي بدأت بالكشوف الجغرافية فالانقلاب الصناعي في حركات الوحدة السياسية التي كرست مباديء المشاركة الديمقراطية ثم جاءت الثورة الفرنسية لتنقض علي اوتوقراطية حكم أسرة البوريون وتحمل راياتها مباديء الحرية والاخاء والمساواة تنشرها الحروب النابوليونية مع أقصي امتداد لطموحات بونابرت العسكرية والسياسية.. كانت أشبه بشرارة متعددة الأطراف تكمن هنا وهناك وتسري في هشيم العصور العفنه لتندلع بعد ذلك في الصحف والترشيح للبرلمان وانتخاب الرؤساء وتداول السلطة. يبرز من بين هذه الحقوق.. حق هو في رأيي أهمها علي الاطلاق هو حق التعبير عن الرأي.. وأتذكر علي الفور تلك المقولة الخالدة للفرنسي العظيم فولتير.. قد أخالفك الرأي ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحقك في أن تعبر عنه!! هكذا تكلم فولتير... وهكذا يجب أن نفكر.. فآفتنا الكبري ليست فقط مايفرض علينا من قيود سياسية وتابوهات اجتماعية ودينية ولكننا نزيدها ضغثا علي إبالة بتجاهلنا لتقاليد وأداب التعامل الليبرالي مع الرأي والرأي الأخر.. وهي العبارة التي نرددها أحيانا كالببغاوات دون أن نروض أنفسنا علي تطبيقها.. والذي يسود بيننا للأسف الشديد هو نوع من حوار الطرشان كما يقول الشوام.. لا أحد يستمع لرأي الآخر.. ولا أحد يدافع عن رأيه بروح تقبل المعارضة وتكون مستعدة للاقتناع.. نطبق بنجاح منقطع النظير مقولة من لايري رأيي فهو عدوي ويتحول الاختلاف في الرأي إلي تراشق بالسباب وتبادل اتهامات القاموس السياسي المنقرضة.. كالخيانة والعمالة والجهل أو التجهيل.. وننسي تلك الحكمة الجميلة التي وردت علي لسان الامام الشافعي. رأيي صواب يحتمل الخطأ.. ورأيك خطأ يحتمل الصواب. فأين ما نفعله من حكمة الشافعي..؟ وأين نحن من استعداد فولتير للاستشهاد في سبيل حرية التعبير عن رأي الآخر؟ نحن للأسف الشديد لانفرق بين تبادل الرأي وتبادل الكلمات ولانميز بين الحوار وصراع الديكة.. ولاندافع عن الرأي بالمنطق العقلاني.. بل نصرخ بمكبرات الصوت مطبقين مقولتنا الفولكلورية: خدوهم بالصوت لايغلبوكم! وهكذا تجري الأمور... أعلانا صوتا.. وأكثرنا عدوانية وفظاظة... وأقدرنا علي منطق الحواة هو صاحب الرأي المسموع والسائد.. هو ببساطة قائد القطيع الذي هو مستعد لأن يدفع حياته ثمنا لمنعك من التعبير عن رأيك. [تصحيح: أسف... فالنص الصحيح... هو مستعد لأن يدفع حياتك أنت ثمنا..] وياعزيزي فولتير... ماحدش أحسن من حد! المزيد من مقالات أسامه أنور عكاشه