من أخطر نتائج تيارات التطرف الديني في الثمانين عاما الماضية، ابتداء من الإخوان إلى التكفير والهجرة، إلى الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، إلى تنظيم القاعدة، إلى بوكو حرام، إلى تنظيم داعش، أنهم جميعا يدعون الانتساب زورا إلى الإسلام، في الوقت الذي تنطلق فيه تطبيقاتهم وفتاواهم وأدبياتهم لتهدم المقاصد الجليلة والمطالب والغايات العليا التي جاء الإسلام من أجلها، حتى إن هذا المشهد عند تجميعه وتركيبه ووضوح أبعاده ليبدو في غاية العجب والغرابة. فبينما ترفع تلك التيارات راية الإسلام، وتلهج بذكر الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وتظل على مدى سنوات وهي تبذل جهودها وأموالها مع الكتب والمؤلفات والأدبيات والجمعيات والأنشطة وغير ذلك، إذا بتلك الأنشطة كلها تنطلق بكل قوة لهدم مقاصد الدين، وتشويهه، وإلصاق القبح والخرافة به، وهي في الظاهر التي تحمل رايته، وتتظاهر بحمايته. وكانت النتيجة أن ثمانين عاما من تاريخ تلك التيارات مما سمي عندهم بالصحوة، قد شغلت المجتمع والعالم بكلام وجدل كثير عن قضية الإسلام، وأنتجت عشرات المفاهيم والأطروحات الملتبسة المبتورة المغلوطة، وبدلا من أن يسفر ذلك عن ظهور وبروز لمقاصد الشرع الشريف، إذا بتلك الأنشطة مدمرة لمقاصد الشرع الشريف تدميرا لا مزيد عليه. ومن المعلوم أن المقاصد الكلية العليا لهذا الشرع الشريف هي حفظ الأنفس، وحفظ العقول، وحفظ الدين، وحفظ الأموال، وحفظ الأعراض والكرامة، وهذه المقاصد الخمسة هي غاية الغايات من كل شئون التشريع الإسلامي الحكيم، بل يذكر الشاطبي أنها ليست مقاصد الإسلام فقط، بل مقاصد الشرائع والأديان كلها. والذي يضع هذه المقاصد الخمسة أمامه، ويرصد مجموع أنشطة التيارات المتأسلمة ليعرضها ويحاكمها إلى تلك المقاصد، يجد أن أنشطتهم على مدى ثمانين عاما مضت ما أسفرت مثلا عن حفظ الأنفس وحمايتها من الهلاك، فضلا عن العمل على إكرامها وإحيائها، بل حملوا راية القتل والتكفير، والنسف والتفجير، والاغتيال الجسدي والمعنوي، ونقض العهود، وترويع الآمنين، ثم إسقاط دول كاملة، بما أدى إلى تشريد شعوب كاملة، وتقسيم دول كاملة، كما هو ناتج تجاربهم في السودان وأفغانستان والصومال وليبيا وسوريا وغيرها. ولو أنني أردت أن أستعرض المقاصد الخمسة المذكورة، وكيف جاءت الآيات والأحاديث المحكمة الصريحة لحفظها وتوقيرها وتأمينها، واستعرضت في المقابل مقدار عدوان تلك التيارات على كل مقصد من تلك المقاصد، وصور ذلك التعدي والانتهاك، لأدى ذلك إلى إطالة شديدة لا يتسع لها هذا المقال، وإن كانت هذه الفكرة تصلح بداية لدراسة جادة ومنحى جديد يبين كذب تلك التيارات وبشاعة عدوانها على هذا الدين الحنيف. وهناك من وراء ذلك عشرات المقاصد الخاصة أو الجزئية، التي دهستها تلك التيارات بأقدامها، ودمرتها تدميرا، فأين العلم والبحث العلمي، وأين إشاعة ثقافة تقدير الحياة والإحياء ورفع شعار (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، ليتحول إلى ميثاق عالمي، وأين التمدن وصناعة الحضارة، وأين تحويل آيات القرآن الكريم إلى برامج عمل تستلهم أوامره بالنظر والتأمل والفكر والتدبر حتى نشيد المؤسسات والمستشفيات ومراصد الفلك ومدارس العلم كما صنعنا بالفعل من قبل، وأين مكارم الأخلاق، وأين حفظ الأوطان، وأين حماية اللغة العربية وتحويلها إلى لغة عالمية تجري جنبا إلى جنب مع الإنجليزية والإسبانية، وأين تعزيز استقرار المجتمعات، وأين إطفاء نيران الحروب في العالم، والذي هو واجبنا في المقام الأول كمسلمين، بدلا أن تسعى تلك التيارات لتحويل الإسلام زورا وكذبا إلى صانع للحروب، وأين محاربة الجوع انطلاقا من قول نبينا الكريم عند أول دخوله للمدينة المنورة: (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام)، فكان ينبغي أن نتحول في نظر العالم إلى أمة تحارب الجوع والفقر في العالم، بدلا من أن نتحول إلى شعوب فقيرة متخلفة نستجدي طعامنا من العالم. إن خريطة مقاصد الشرع الشريف على مختلف مستوياتها قد دمرت تدميرا تاما على يد تيارات التطرف من الإخوان إلى داعش، بل انطلقوا إلى العمل الدءوب على عكس تلك المقاصد، فبدلا من حفظ الأنفس انطلقوا إلى قتل الأنفس، وبدلا من حفظ العقول دمروا العقول السليمة ومناهج التفكير المنيرة، وبدلا من حفظ الدين قدموه بصورة قبيحة منفرة فألحد الناس، والأغرب من كل ما سبق أنهم يسمون نشاطهم المدمر لمقاصد الشريعة جهادا في سبيل الله!! لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;