قدم الروائي الكبير محمد المنسي قنديل في رائعته الأخيرة أنا عشقت رؤية مجازية لمصر المتجمدة قبل ثورة يناير انتظار البطل يشبع لهفتها للعشق ويعيدها للحياة, ولكنه كما أسلفنا في المقال السابق يغوص بنا عبر رحلة علي طالب نهائي طب في بحثه عن حسن خطيب وردالرامزة, يغوص في أحشاء القاهرة, حيث يعاين بنفسه صنوفا من البشر يمثلون وجوها متناقضة لحركة المجتمع الموارة. يصحبه مثلا في الفندق الرخيص الذي نزل به مستأجرا ينام طيلة النهار ويصحو فقط بالليل, يقدم نفسه علي أنه شاعر جاء من الصعيد, من الجنوب البعيد قائلا: لا أحب هذه المدينة إلا ليلا, لأنها تصبح ملكي أنا وأصدقائي من الشواذ والسفلة والخارجين علي القانون وعلي الرغم من تلك الحدة التي يصف بها أصحابه فإنه لا يلبث أن يقول أنا مثل زرقاء اليمامة, أري ما لم يره أحد, ستجد هذا الحسن الذي تبحث عنه, ستعود به, وسيعيدإليها الحياة, لا أدري بأي صورة ولا علي أي نحو ولكني أري ذلك وإمعانا في تعزيز تماثله الواضح بالشاعر أمل دنقل يضيف: هل تري ملامح وجهي ؟ أليست غريبة, دقق فيها قليلا, وجوه مثل وجهي محفورة علي واجهة المعابد والأعمدة الحجرية, لم أكتشف أنا ذلك, اكتشفه صديق لي يعمل مخرجا لأفلام السينما, كان يحضر فيلما عن اخناتون وهو كما تعرف نبي فرعوني من نوع مختلف, كنت أحمل ملامحه دون أن أدري, ورأي صديقي المخرج أنني البطل الذي يبحث عنه, قرأنا معا ترانيم أخناتون وانتقلنا إلي كتاب الموتي وبرديات البعث والخلود, هو الذي تبين أيضا قدرتي علي رؤية كل شيء قبل أن يحدث, وعندما زرته وهو علي فراش الموت كنت أعرف أن هذه هي المرة الأخيرة, سوف يموت ولن يتم الفيلم, ولا بد أنه رأي ذلك في عيني لأنه جذبني إليه وقبلني, من لحظتها وقد رأيت أنا أيضا لحظة موتي ومن البين أنه يحكي عن شادي عبد السلام, لكنه ينقل الأزمنة ويكثف الوقائع المتشابكة ليصنع من مادة الحياة التاريخية النابضة في الذاكرة الوطنية أمثولة تعبر عن جوهر الواقع المحتشد بأجنة المستقبل. يتنبأ الشاعر الراوي بخاتمة الرواية دون أن يعرف الطريقة, ويدعو الشاب لمسالمة الآخرين حتي لا يدخل في معارك جانبية, ليتفهم إيقاع حياة المدينة الفاحشة وطابع أهلها. ثم يلتقي الشاب المثالي بالعنصر الأمني الذي كان مسؤلا عن حسن وهو في كلية الهندسة بعد أن وجد اسمه قد محي من سجل العاملين بها, يحكي له العنصر في مفارقات كثيرة كيف ضيع حسن مستقبله وفقد أثره كان يشارك في كل يوم في اجتماع محظور, ويرفع لافتات ملتهبة, ويدفع البراغيث للخروج بالمظاهرات إلي الشارع.. وخاض معركة دامية مع رجال الأمن المركزي وانصب علينا كل اللوم داخل الكلية, نفد مني صبر أيوب وقلت لهم عن تاريخ أبيه الأسود الذي كان يحرض العمال في المحلة وقتل في مظاهراتها, لو تركته لأحرق البلد وأحرقنا معه وهكذا دفع به إلي السجن وفصل من عمله بالكلية وفقد الجميع أثره فيما عدا أستاذ أعطي عنوانه في قلعة الكبش بالسيدة زينب لطالبة تعرف عليها الراوي لتستمر رحلة البحث عن البطل المخلص للفتاة المجمدة. مشكلة الرواية وميزتها أنها قابلة للتضخم ومفتوحة للاستطراد في بنية مرنة تشبه جوف الفرا الذي كان يقول العرب إن كل الصيد فيه, وأحسب أن رواية المنسي قنديل هذه تقبل القسمة علي اثنتين أو ثلاث روايات, فالفصول الخاصة بطالبة الهندسة سمية يسري و عبد المعطي رفيق السجن و ذكري البرعي سيدة الأعمال أسطورية الجمال كلها تقدم عوالم موازية تعايشت مع شخوص العمل الأساسي بطريقة عابرة قد تكشف عن جوانب من مظاهر الفساد والقمع المتغلغلة في صلب النظام, لكن الأمثولة الرئيسية للرواية يمكن أن تشف وتتبلور, وتصبح أشد كثافة وأقوي وقعا علي القارئ بدونها, بالرغم من أنها لا تخلو من مشاهد رائقة ذات دلالات عميقة, فعبد المعطي السجين السابق وزميل حسن في السكن المذعور بقلعة الكبش المهددة بحصار الشرطة وحيلها الخادعة يحكي مثلا قصة افتتانه في أثناء عمله حارسا بالمتحف بتمثال صغير للإلهه نوت عبارة عن رأس صغير لفتاة طرف أنفها مكسور, وبرغم ذلك كانت ملامحها واضحة وعيناها واسعتان تنظران إلي شيء بعيد وهما تعبران الزمان وجدران المتحف( لنا أن نتساءل هل يرقي وعي الحارس لتصور ذلك) ولكن أغرب ما فيها كان شعرها المتجعد المنسدل علي كتفيها كأنها قد فكت جدائلها للتو ثم يسترسل الحارس في روايته الطريفة للطالب فور أن رأيتها لعبت في داخلي ذكري حية. عندما كنت مختبئا خلف حرش من الأعشاب البرية علي حافة الترعة, وكانت الفتاة التي تشبهها خارجة من الماء بجسدها النحيل ومع أن احتمال افتتان شاب مصري ريفي بوجه تمثال يحمل ملامح رسخت في ذاكرته من تجربة حية ضعيف إلي حد ما فإن هذه القصة برمتها لا تصلح للتدليل علي مدي الظلم في دخوله السجن, لأن تهمته المشاركة في سرقة الآثار مما لا يمكن أن يستهان بها ويحبس الحارس من أجلها, ولعل هدف الراوي منها هو البرهنة علي ولع المصريين علي اختلاف مستوياتهم مما تخمر في أعماقهم من نماذج الفن وأسرار جماله. وعندما نصل إلي الشطر الأخير من الرواية, ونخوض في عالم حروب العصابات المحترفة, ونري كيف تغير حسن خطيب ورد وتحول من عاشق مشبوب العواطف إلي قاتل محترف بعد خروجه من السجن ومعاناته فيه, ندرك بشاعة التشويه الذي يلحق بالبشر ونري فداحة النتائج, يقول عنه رفيقه لقد أصبح يائسا, واليأس مرض معد, عندما قابلته بعد خروجه من السجن كان بريئا كعصفور, ولا يدري أين يوجه طاقة الحنق والغضب التي تتأجج في داخله, لم أفعل إلا أنني ساعدته علي اكتشاف ما يريد, كيف يحول طاقة الغضب هذه إلي ثأر, ثأر لنفسه وللآخرين, لم أرد أنني ساعدته علي اكتشاف الوحش الذي بداخله ولست متأكدا من أن الروائي المتمكن قصد بهذا التركيز علي مشاعر التوحش التي يصل إليها بعض المستضعفين من الشباب في اندفاعهم تجاه الانتقام بعدوانية مفرطة الإشارة لبعض شباب الثورة, لكن حسن بعد أن ينتقم بالقتل ويورط معه قسرا طالب الطب الذي سعي للبحث عنه كي يشهد التصفية الجسدية للرجل الكبير المسئول عن كل الجرائم في ذروة انغماسه في الشهوة مع معشوقته الغانية, ويحاول الكاتب أن يبرر هذه التحولات الدرامية بالتعذيب الذي لقيه في السجن والعدوان الجسدي الذي تعرض له, مما أثار الوحش بداخله, وعندما تسكن ثائرته ويستسلم لطلب العودة بالقطار إلي المحلة الكبري, فيري تمثال خطيبته المجمدة ويمد لها ذراعيه ويأخذ جسدها المتخشب في أحضانه, حيث يدع الفرصة لخلاياها حتي تتشرب هذه الدفقة الجديدة من الحياة, فيختلج جسدها من جديد, يذوب تصلبه ويرتاح صدرها علي صدره هكذا تتم المعجزة الخارقة في الرواية, علي الرغم من أن العاشق ملوث اليد بالدماء, فيصيح بها علي أنه يحمل لك الموت, إنه لا يستحق انتفاضة الحياة فيك ويظل القارئ مشدوها غير مقتنع تماما بالتفسير الذي ارتضاه للأمثولة, حتي يعيد قراءتها مرة أخري, بحثا عن قصة عشقه لخاصة وكيف حركت حياته, مستشرفا ما يضمره الغيب من مفاجآت. المزيد من مقالات د. صلاح فضل