الدولة هي التشخيص القانوني لشعب ما, وتطلق علي جماعة مستقلة من الأفراد المجتمعين الذين يعيشون بصفة دائمة علي أرض معينة بينهم طبقة حاكمة وأخري محكومة, والنتيجة الحتمية لهذا التعايش هو نشأة سلطة عامة للجماعة, هذه السلطة هي الصفة الأساسية للدولة ويجب ألا تستخدم إلا في مصلحة الجماعة, فإذا غابت سلطة الدولة أوانقطعت انفرط عقد الجماعة, وعمت الفوضي وأصبحت الشريعة المطبقة هي شريعة الغاب. من أجل ذلك اضطر الإنسان للانضمام إلي غيره وتنازل للجماعة عن جزء من حقوقه وحريته مقابل تمتعه بصيانة المجموع لتلك الحقوق في حالة من المساواة بينه وبين الجميع بموجب عقد اجتماعي تولدت عنه إرادة عامة هي إرادة الأمة صاحبة السلطان علي الأفراد جميعا; ونشأت بمقتضي ذلك ثلاث سلطات تتولي تسيير أمور هذه الأمة, هي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, وقد اقتضي سير النظام في الدولة وجود فصل بين تلك السلطات بعضها عن البعض الآخر بما يحقق لكل منها قدرا من الاستقلال والرقابة المتبادلة التي تكفل احترام القوانين وتطبيقها تطبيقا سليما, حتي إن مونتسكيو الفقيه القانوني الفرنسي ذكر في كتابه( روح القوانين) أنه إذا كانت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في يد شخص واحد أوهيئة واحدة انعدمت الحرية, إذ يخشي أن يسن ذلك الشخص أوتلك الهيئة قوانين جائرة لينفذها بطريق ظالم, كما تنعدم الحرية إذا لم تكن سلطة القضاء منعزلة عن التشريع, لأن حرية أبناء الوطن وحياتهم تصبحان تحت رحمتهما مادام القاضي هو المشرع, وإذا كانت السلطة القضائية متحدة مع السلطة التنفيذية فإن القاضي سيكون طاغيا, لأنه سيكون خصما وحكما في آن واحد. فالسلطة التشريعية مطالبة بسن القوانين والتشريعات المتفقة مع الدستور الذي تسير عليه الجماعة بهدف ضبط إيقاع الحياة في المجتمع, وتحديد اتجاهه نحو السير إلي الخير والعدل والحرية, كما أنها مطالبة بالرقابة علي أداء السلطة التنفيذية في أثناء تنفيذها لتلك القوانين والالتزام بالسياسات التي تطرحها الأخيرة علي البرلمان تنفيذا للقانون وتحقيقا لمبدأ الرقابة الشعبية علي أداء الحكومة لدورها في السعي نحو تقدم المجتمع ورفاهيته. ولا يعد من قبيل ذلك موافقة السلطة التشريعية علي قوانين جائرة أوتخالف الصفات الأساسية لأي قانون من تجرد وعموم وتحقيق مصلحة مشتركة للجماعة, لأن الحماية التي تبسطها القوانين علي الجميع إنما نشأت من نظرية القانون نفسه; فالقانون هو قاعدة آمرة تقنن للصالح العام لا الصالح الخاص, وللجميع لا لشخص معين, وللمستقبل دون انقطاع, فإذا لم يتحقق القانون طبقا لذلك يصبح معيبا بعيب الانحراف في استخدام سلطة التشريع. أما عن السلطة التنفيذية فهي التي تخضع لقوانين وأنظمة الدولة وتتولي مهمة تنفيذ القانون وعدم مخالفته, ورسم السياسات التي تحقق المصلحة المشتركة للمجموع في إطار القانون. وتعبر عن السلطة العامة للشعب وتعتبر مظهره في السيادة والهيبة للدولة. لكن سيادة الدولة في هذه الحالة تكون مقيدة بثلاثة قيود. وهي الدستور. والقوانين العادية فلا تستطيع الحكومة الخروج عليها حتي تصدر قوانين أخري تلغيها. واحترام حقوق الأفراد المستمدة من القانون الطبيعي والدستور المكتوب, وأهمها الحرية الشخصية وحرية العقيدة, والمساواة أمام القانون وفي الحقوق السياسية. وتلك الحقوق الفردية التي تلتزم الدولة بصونها وكفالتها للجميع هي حقوق طبيعية للإنسان ليس لسلطان الدولة أن يمتد إليها حتي ولو تغير الدستور أوتعدلت القوانين. وبغير مراعاة للقيود الثلاثة لا تعتبر الحكومة قانونية وإنما تصبح الحكومة مستبدة تتخذ طرقا تحكمية ضد الأفراد مخالفة بذلك مبدأ القانون نفسه; وهذا غير واقع ولا جائز أن يقع. فلا تعد الحكومة قانونية إذا تقدمت بمشروعات قوانين مقيدة للحريات العامة المنصوص عليها في الدستورتحت أي ستار. كما لا تعد الحكومة قانونية إذا تغافلت عن أداء دورها في مواجهة ظواهر الفساد والرقابة التي تمنع مخالفات القوانين المتفشية والتعامل معها بكل حزم وصرامة في إطار الصلاحيات المخولة لها بموجب القوانين, أو إذا لم تقم بتنفيذ الأحكام القضائية النهائية بما يضمن تحقيق هيبة الدولة وكفالة تطبيق القانون, أوإذا تدخلت تدخلا سافرا في أعمال السلطات الأخري في الدولة بقصد فرض هيمنتها علي السلطتين الأخريين وتقييد استقلالهما. السلطة القضائية مطالبة بالفصل في الأقضية المطروحة عليها في إطار من الاستقلال والعدل والالتزام بالقوانين القائمة وسريانها علي الجميع دون تفرقة. وحتي يتحقق للسلطة القضائية الاستقلال الذي يمكنها من الوصول إلي العدل في أسمي معانيه ينبغي نفي أي شبهه لتدخل السلطتين الأخريين في شئون السلطة القضائية, سواء كان إداريا من جانب السلطة التنفيذية, أو كان بالتعليق علي الأحكام القضائية أوتفسيرها بما يخالف مدلولها أوالامتناع عن تنفيذ الأحكام الباتة كحكم المحكمة الدستورية الأخير تحت زعم من هذه التفسيرات المغلوطة لبعض أعضاء السلطة التشريعية. الخلاصة أن مقومات الدولة القانونية معروفة منذ أن بدأ الإنسان يشعر بحاجته إلي العيش في جماعة, وتقدمت الدول التي تمسكت بتلك المقومات. وكان من يتولي أمر السلطات الثلاث في هذه الدول أولئك الذين يتميزون بالكفاءة والخبرة في التخصص والموهبة وسعة الإدراك والمقدرة علي تحمل المسئوليات حينما تشتد الأزمات, وتلك الخصال تمثل بديهيات ومطالب طبيعية لأبناء المجتمع الواحد فيمن يتولي أمرهم تحقيقا للمصلحة المشتركة التي ينشدها الجميع من عدل وتقدم ومساواة. أما ما دار خلال الفترة الانتقالية من تناقضات ومهاترات, سواء كانت فوضي إصدار تشريعات غير دستورية أم تجاوزا من سلطة علي سلطة أخري, وظهور بعض الأدعياء والانتهازيين ممن يزعمون أنهم النخبة في جميع المجالات مع أنهم المتسببون بأفكارهم التحريضية في كل ما حاق بالبلاد من أضرار طوال الفترة السابقة, سواء كانت اقتصادية نشأت عن انعدام الأمن وقلة الانتاج, أوقانونية أضاعت هيبة الدولة بالتعليق علي الأحكام القضائية والتطاول علي القضاة, والتهديد بالاحتكام إلي الشارع تحت شعار الشرعية الثورية مستندين في ذلك إلي الثورة الفرنسية والأحداث التي لازمتها, فهو قولة حق يراد بها باطل ثبت تاريخيا فداحة خطأ السير فيه إذ تبين من متابعتها تاريخيا أن الفرنسيين أنفسهم اكتشفوا خطأ ممارساتها التعسفية تحت الشعار السابق الذي أسفر عن قتل الآلاف منهم بالمقصلة في محاكمات شعبية ظالمة, وأن هذا الشعار ما هو إلا أكذوبة كبري مما دعاهم لمحاكمة زعماء الثورة من رجال حزب الجيروند وعلي رأسهم روبسبير وقد كان رجل قانون والحكم بإعدامهم بالطريقة وتحت الشعار تفسه حتي أطلق عليها بعض المؤرخين ثورة الدهماء أوالغوغاء, وجميع القوانين التي صدرت بعد ثورة يوليو عام1952 واتسمت بهذه الصفة ألغيت جميعها, وقامت الدولة بتعويض المضارين بأموال الشعب, فهل ننتبه لدروس التاريخ ونلتزم بأحكام دولة القانون في الشكل والمضمون, أم نظل علي حالنا كي نصبح عبرة لمن يعتبر, ويصح فينا قول المتنبي الذي قال منذ ألف عام ياأمة ضحكت من جهلها الأمم.