ما الذي يجمع بين نواب التيار السلفي الثلاثة: ممدوح إسماعيل الذي قام برفع صوت الأذان لصلاة العصر في أولي جلسات البرلمان المصري العريق في سابقة لم تحدث من قبل ونرجو أن لا تحدث بعد ثم أنور البلكيمي الذي أجري جراحة تجميل حاول إخفاءها بوضع ضمادات علي وجهه, وادعاء تعرضه لعدوان كسر أنفه, مستسهلا الكذب والاحتيال علي القانون.. وأخيرا علي ونيس الذي ارتكب أخيرا فعلا فاضحا مع فتاه مراهقة لعلها في عمر أولاده داخل سيارة في الطريق العام, ما اضطره تحت وقع الفضيحة, وخشية الرأي العام إلي الكذب والهروب؟.. يجمع بين هؤلاء, فضلا عن مظهرهم الذي تتصدره اللحية دوما, ويغلفه الجلباب أحيانا, ادعاء باطن بأنهم أكثرنا قربا إلي الأخلاقيات الإسلامية الصحيحة, تلك التي كان يتمتع بها السلف الصالح, وبها ارتادوا أفق الحضارة الإنسانية, وهو الادعاء الذي صدقه الناس فقاموا بانتخابهم نوابا عنهم, حراسا علي فضائلهم.. لكنهم غدروا بهم, وتنكروا لعهدهم عبر أفعالهم المراهقة حينا, المنافقة حينا آخر, والمجرمة حينا ثالثا, والتي بدوا معها هم الأكثر بعدا ليس فقط عن أخلاقيات السلف, بل وأيضا عن تقاليدنا المحتشمة, نحن المسلمين العاديين, عربا أو مصريين.. تمثل الوقائع الثلاث نماذج رائقة تصلح للتعميم علي قضايا عديدة تخص فهم الإسلام لدي هذا التيار وما يقاربه من تيارات الإسلام السياسي, من قبيل علاقة الدين بالدولة, والدين بالمجتمع, والظاهر بالباطن, حيث يسود الفهم الشكلي/ النصي للإيمان والأخلاق, والذي نظنه أحد علامات انحطاطنا, وربما دوافع تخلف مجتمعاتنا العربية المعاصرة, التي تبدو فقيرة أخلاقيا, رغم استنادها إلي دينين عظيمين هما المسيحية والإسلام, يشكلان قاعدة الاعتقاد لدي الأغلبية الساحقة من مواطنيها. يرجع هذا الهزال الأخلاقي إلي أن الثقافة العربية أهدرت مثالها الديني أو ضلته منذ زمن طويل, تحت ضغوط الهزيمة الحضارية والنفسية. كما عجزت, في الوقت نفسه, عن صنع مثال حديث قادر علي الحلول محله والاضطلاع بدوره, قادر علي حفزها وإلهامها من جديد. بل إنها كثيرا ما أنفقت جهدها في هجاء هذا البديل الحديث/ الوضعي المستند إلي مفهومي العقل والواجب, والذي صاغته الثقافة الغربية, باعتباره قرينا شيطانيا للدنيوية, والمادية, والعلمانية. يتنكر هذا الفهم وما يعقبه من هجاء لحقيقة أن أبرز ملامح ارتقاء الدين في التاريخ يتعلق بمدي واقعيته وتعبيره عن الحس الإنساني المشترك, بارتكازه علي الفطرة, واستناده إلي العقل الإنسانيين, ما يجعل الأخلاق الدينية الصحيحة قرينة للأخلاق الإنسانية الحقة, لا تشذ عنها جوهريا والعكس صحيح أيضا, فالقبيح هو القبيح, والباطل هو الباطل, والظلم هو الظلم, والجرم هو الجرم في شتي أنساق الأخلاق الفلسفية والشرائع الدينية, وما هو قائم بينها من تباين لا يعد جوهريا مطلقا, بل نسبيا يتعلق بتفاصيل المكان والزمان, وغالبا ما ينصرف إلي طريقة التعاطي مع الموقف اللا أخلاقي, أي كيفية قمعه ثم عقابه, وليس إلي تعريفه أو تحديده. تكاد تتفق جل الأنساق الأخلاقية علي أن أبرز دلائل الأخلاق يتمثل في اتساق سلوك الإنسان مع صوت ضميره, الهامس داخله, فإذا ما أجاد الإنسان الإصغاء إلي ذلك الصوت كان أخلاقيا ولو أخطأ السلوك, أما إذا تنكر له, فالأحري أن يكون منافقا, حتي وإن جاء سلوكه فعالا أو مفيدا من وجهة النظر العملية. وفي الحقيقة لا يقف الدين التوحيدي بشرائعه الثلاث في مواجهة هذا الفهم, بل يدعمه بتقديم أفضل مبرراته عبر قصة الخلق الدينية التي تشي بأن الإنسان, كل إنسان, يحمل بين ضلوعه ملاكا وشيطانا يتصارعان دوما علي دفقات روحه وحركة سيره, فلم يرده الله عز وجل ملاكا خالصا يدور حول العرش, معصوما من الخطأ, مقهورا علي الطاعة.. ولم يرده شيطانا خالصا, متمردا أصليا علي أمره, مقصيا تماما عن ملكوته, بل أراده كائنا عاقلا حرا, تدفعه حريته, لو أراد, إلي طريق الله بالسمو عن الرذائل, والتطلع إلي السماء مركز الشعور بالقدسية, ووجهة الحضرة الإلهية. كما تدفعه, لو أراد, إلي طريق الشيطان, بالانغماس في الرذائل, والالتصاق بالملذات الدنيوية الزائلة. غير أن هذا التعويل علي الضمير وحده يمثل واحدة من أروع نقاط القوة, وأبرز نقاط الضعف في الدين الذي يصوغ أخلاقيات ومثل تجد مصدر إلزامها في قلب المؤمن, وليس في قواعد قانونية ترعاها سلطات قاهرة تفرض علي الإنسان الالتزام بها, ولعل هذا هو الفارق الكبير بين عالم الألوهية المقدس الذي يرعاه الضمير, وعالم السياسة المدنس الذي تحميه القوة. وهكذا نجد في الوقائع الثلاث التي ارتكبها النواب السلفيون الثلاثة خيانات متباينة المستوي للضمير الأخلاقي تحت ضغط, إما المظهرية الدينية وما تدفع إليه من ادعاءات شكلانية, وإما الذرائع الدنيوية وما يعقبها من ضعف إنساني, ونفاق أخلاقي: فثمة خيانة سياسية ارتكبها ممدوح اسماعيل في حق من وثقوا به أمينا علي مصالحهم, وانتخبوه ممثلا لهم, يرعي مصالحهم, فإذا به يحيل البرلمان مسجدا, متخليا عن دوره الحقيقي, لمصلحة دور عبثي يستطيعون ممارسته بأنفسهم داخل كل مسجد وفي أي وقت. وثمة خيانة أخلاقية ارتكبها البلكيمي عندما كذب وراوغ وسلك طريقا ملتفا إلي حق من حقوقه لا ينازعه فيه أحد, ولا يقف دونه شرع, لو أنه كان صريحا مع الناس, صادقا مع نفسه, مدركا أن صفات مثل الكذب والتدليس ليست إلا مسالك قبيحة, لا تصلح لبلوغ الجمال الذي أراده لنفسه, لأن الغاية الأخلاقية لابد لها من طريق أخلاقي. وثمة خيانة أخلاقية سياسية ارتكبها علي ونيس: أخلاقيا بمخالفته للشرع الإلهي الذي ادعي بأنه الأقدر علي رعايته, عندما خلا بالفتاة التي لا تحل له, ممارسا مراهقة متأخرة لا تليق بإنسان مسلم, ناهيك عن كونه( سلفيا) يدعي لنفسه حق تجسيد صورة الإسلام, والحديث باسمه. وسياسيا بخيانته للقوانين المرعية في الدولة التي انتخبه أهلها لحمايتها, فكان مثل ذئب اؤتمن علي خراف, فأخذ يأكل منها ما كان يفترض له أن يحميه.. ختاما.. تشي تلك الوقائع الثلاث المتباينة, والخيانات المترتبة عليها, بحقيقة أساسية هي حاجتنا إلي فهم أعمق وأرحب لديننا الحنيف, ولنصوصه التأسيسية, يصطبغ بفضيلتي التوازن والاعتدال المرتبطين بالفطرة والعقل الإنسانيين. ويبعدنا, في المقابل, عن التطرف المدفوع بمثاليات متوهمة لا تطيقها طبيعتنا الجوهرية, لندعي مظهريا فقط, أننا أكثر إيمانا من غيرنا, أو لنحتكر حق الحديث باسم هذا الإيمان دون سوانا, لأننا إذا أهملنا فطرتنا وانغلقنا علي أوهامنا, فسرعان ما نقع ضحايا حقيقتنا الإنسانية, أسري شيزوفرينيا أخلاقية, علي النحو الذي رأيناه سلفا, ولا نود أن نراه لاحقا. المزيد من مقالات صلاح سالم