محطة القطار في أي مكان في العالم ، وفي أي مدينة كبُر حجمها أو صغُر هي نموذج مصغر للحياة .. مكان يعج بالتفاصيل الصغيرة والمشاعر الكثيرة ، ملئ بالحركة والنشاط .. يحمل كل تناقضات الواقع الذي نعيشه ، أرصفته تشبه كثيراً يوميات البشر بحكاياتهم الحزينة والسعيدة ، بطموحاتهم وإحباطاتهم ، وفي المحطة وعلي نفس الرصيف تجد المودع والمُستقبل ، الحزين والسعيد ، المعانق في فرح والمعانق في حزن ، المسافر يبحث عن رزقه والعائد الي أهله والباحث عن مستقبل والمغامر والطموح والكسول والمتفاءل والمتشائم ..ويمكنك أن تجد علي المحطة في نفس الوقت المحبين والمتلهفين والمخادعين كلهم يقفون جنباً الي جنب لا يفصلهم عن بعضهم البعض إلا مشاعرهم ، باختصار يمكن القول ان محطات القطار في أي مكان في العالم حقل دراسي رائع ومدهش فمن يدرس محطات القطار كمن وضع شريحة من الحياة تحت الميكروسكوب وبالطبع سوف يجد في الشريحة التي يفحصها كل النماذج الموجودة في الحياة .. وحكاية هذا الأسبوع عن محطة قطار الإسكندرية أو كما يُطلق عليها ( محطة مصر ) من خلال الرسومات التي نُشرت في الجرائد الأجنبية وخاصة في Illustrated London News في القرن التاسع عشر بالتحديد عام 1858 وهي صور رائعة تحكي الكثير من التفاصيل عن شكل الحياة في الإسكندرية بعد اختراع القطار ومد السكك الحديدية .. فمن المعروف أن أول خط سكة حديد تم مده في إفريقيا والعالم العربي كان في مصر وهو ثاني خط بعد سكك حديد إنجلترا وبالتالي كانت الحياة مازالت بدائية وبكرا في الإسكندرية عند مد خط السكة الحديد عام 1856 وهو المشروع الذي تبناه عباس الأول حفيد محمد علي باشا من أجل تسهيل نقل البريد والمسافرين ، وهو المشروع الذي دعمته الحكومة الإنجليزية لخدمة أغراضها حيث كانت السفن تصل من أوروبا إلي الاسكندرية، ثم تنقل براً إلي القاهرة، ومنها إلي ميناء السويس لتسير بحراً في البحر الأحمر ثم المحيط الهندي لتصل إلي الهند فكانت تستغرق وقتاً طويلاً وجهداً ومالاً للوصول للمستعمرات الإنجليزية في الهند فدعمت إنجلترا فكرة إنشاء الخط الحديدي بين القاهرةوالإسكندرية لتيسير عملية السفر والانتقال وقد تم الإستعانة بروبرت ستيفنسن ابن مخترع القطار الذي يعمل بالبخار، لإقامة هذا المشروع الذي يعد الأول من نوعه في المشرق العربي. فجاء ستيفنسن إلي مصر وأشرف علي جلب كل المعدات اللازمة للمشروع و عمل فيه بجد حتي أتمه عام 1856 . وتظهر الصورة التي أعرضها هذا الأسبوع وهي من الفحم محطة سكة حديد الإسكندرية عام 1858 عبارة عن مبني ضخم مكون من طابقين ومدخله مرتفع وعلي شكل «بواكي» والمبني مكون من قلب وجناحين وأمامه ساحة كبيرة غير مُعبدة بها حركة كبيرة من المسافرين والتجار الذين يحملون بضائعهم علي ظهور الجمال وبعضهم قد جلس يستظل في ظل شجرة أو نخلة إستعداداً لموعد السفر والآخرون يجيئون ويروحون وبعضهم يصل الي المحطة مترجلاً أو في صحبة صديق أو علي صهوة جوادة وفي كل الأحوال فالصورة توحي بجمال المكان والمبني رغم بدائيته وإن كان يبدو أنه تم تعبيد طريق صغير بشكل بسيط لمرور الجمال التي تحمل البضائع والأحصنة التي تحمل بعض الركاب . ويقول فؤاد فرج في كتابه عن الإسكندرية انه لما وُلي سمو عباس باشا حكم مصر فكر في إيجاد طريق بري بين أوروبا والهند تسهيلاً للتجارة الهندية ومن ثم بدأ في إنشاء أول خط حديدي من مدينة الإسكندرية سنة 1854 وأنشئت محطة للسكك الحديدية بالقباري في ذلك الحين تستخدم للركاب والبضائع في وقت واحد ، وهنا عادت لميناء الإسكندرية أهميته وانتعشت الأسواق بعد كسادها ، وقد كان ازدياد الواردات من البضائع سبباً في توجيه فكر مصلحة السكك الحديدية الي توسيع المحطة توسيعاً يتناسب مع حركة البضائع فيها وقد ساعد علي نمو الفكرة الامتداد العمراني الي ضاحية الرمل فاستقر الرأي علي أن تنفرد محطة القباري بالبضائع وتم إنشاء محطة للركاب بالباب الجديد وهو مدخل مدينة الإسكندرية عام 1876 ، ولكن المدينة أخذت تنمو نمواً مطرداً حتي أصبحت محطتها لا تتفق مع عظمتها ولا تتسع لعدد الركاب الذي بلغ ما يقرب من مليون راكب سنوياً ، لذلك رأت المصلحة أن تنشئ محطة جديدة علي أحدث طراز فإختارت لها ناحية كوم الدكة موقعاً وبدأت في تشييدها عام 1911 ولكن الحرب العالمية حالت دون إستيراد موادها فوقف العمل بها ولم يتم الا عام 1927 حيث احتفل بافتتاحها رسمياً في أول نوفمبر 1927 بحضور الملك فؤاد الأول . ويقول الأثري عاشق الإسكندرية أحمد عبد الفتاح ان محطة مصر هي بوابة البحر الأبيض لأعالي أفريقيا وهي أثر رائع يعلن عن عصر مجيد للإسكندرية وقد أقامها العبقريان المعماريان أنطون لاشياك ول . ايكونوموبولوس خلال الفترة من 1915 وحتي 1927 وقد افتتحها فؤاد الأول في إحتفالية رائعة أظهرت أناقة المدينة وقد استوحي في بنائها روح حضارات مصر القديمة واليونان والرومان وقد جلبت أحجار البناء من اليونان وإيطاليا وقد سبق هذا البناء بناء اقدم صممه المعماري أ . بانس وكان علي الطراز العربي وذا ساحة خارجية ، ويضيف عبد الفتاح أن الفناء الخارجي للمحطة في حاجة لإعادة تخطيط كما يجب علي هيئة السكك الحديدية ذات التقاليد العريقة انتداب كبار خبراء الفن والمعمار والترميم الدقيق لصيانة الميداليات التاريخية التي تعلو الواجهة الرئيسية وحمايتها من عوامل التعرية والحفاظ علي الطابع التاريخي والعريق لهذا المبني .