تنحو بعض نظريات علم الاجتماع الي ان لكل مجتمع قوانين تطور ذاتي غير مستنسخة, كما تؤكد انها لا يمكنها اكتشافها بنفسها واثناء صيرورتها, لانها لو فعلت ذلك فانها ستكون قد اوقفت عجلة التطور الطبيعي الجارية فيها او غيرت نتائجها, مادامت قد تمكنت من التعرف مسبقا علي مآلاتها. ويبدو ان ذلك هو تحديدا ماجري في الجولة الاولي لانتخابات الرئاسية المصرية التي جاءت نتائجها محيرة للعامة, مثلما كانت مخيبة لتوقعات اكثر المحللين والمتابعين الماما بتطورات الثورة المصرية التي لا تزال تفاجئنا بصنع قوانين تطورها الخاصة, كحركة تغير كامل للمجتمع, في ظل صراع المصالح بين القوي السياسية والاجتماعية المختلفة, وفي اطار المواقف والاحاسيس المتباينة لدي شرائح المجتمع المتعددة. ما حصل في هذه الجولة هو ان عملية الاقتراع جاءت باحد كبار رموز النظام الذي اطاحت به الثورة الي صدارة العملية الانتخابية منافسا لمرشح لا ينتمي بدوره الي نهج الثورة وقيمها واهدافها الحقيقية.ما تعنيه هذه النتيجة اللامعقولة ظاهريا هو ان الشعب اختار عند اول فرصة وفرتها له الثورة للمشاركة في انتخابات حقيقية ممثلين ابعد عن ان يكونا مؤسسين لحقبة الحكم الثوري المنشود, الامر الذي سيصم الثورة بالعجز عن تأمين سلامتها وديمومتها, بل انقضاء الروح الثورية ذاتها علي صعيد الفعل والمفاهيم. هناك تأويلات عديدة لهذا التناقض الصارخ فيما انتهت اليه جولة الانتخابات الاولي ترواحت ما بين التركيز علي خلفية المشهد الامني والاقتصادي وعلي القوي الاجتماعية والسياسية والتنظيمية التي تقف وراء المرشحين, او النظر الي خلفيتهم وادائهم الانتخابي.الا ان ما تم التغاضي عنه هو النظر الي ما يعرف بمنطق المجتمع العام, او ما يعزوه الفكر الاجتماعي الي قوانين التطور الاجتماعي وفعل الانجاز الكامن في اللاوعي الجمعي الذي برهن علي الضد من التوقعات انه حجر الاساس في إحداث التغير المطلوب لادارة المرحلة. ما قدمته التجربة المصرية في هذا الاطار وما يغيب عن النقاش الجاري بشأن النتائج المفاجئة لجولة الانتخابات الاولي هو ان وعيا جمعيا عند قطاع واسع من المصريين, ممن شارك في عملية الاقتراع, تمكن من الانتقال من التجربة اللاواعية التي خاضها منذ الثورة الي الادراك, عبر اكتشافه لقدرة, بل حتمية, تطور المجتمع الذاتي الكامنة, دون تأثير كبير من القوي الخارجية, سواء اكانت تلك جماعات ضغط, او نخب مصالح, او إعلاما تعبويا سعت لجذبه نحو فضائياتها المؤثرة. حقا ان اصطفافات مغايرة لتلك التي سادت في عملية الانتخابات التشريعية حصلت وان ضغوطات وتأثيرات مورست الا ان التجربة بكل ما تعنيه من غريزة البقاء ودافع الاهتمام بالحياة والرغبة بالتطور تجلت في اللحظة التي ادرك فيها ذلك القطاع من الناخبين عجز الواقع عن ادراك طاقاتهم في خلق, او الاسهام في بناء النظام الجديد, الامر الذي دعاههم ان ينبذوا التردد وحالة السبات, ويمارسوا بأنفسهم دورههم الطبيعي في دخول المجال العام, دون وصاية او تأثير. ان تراجع نسبة المقترعين للاسلاميين عن الانتخابات التشريعية خلال ستة اشهر وظهور كتلة موازية مؤيدة للنظام القديم يوفر تفسيرا ماديا لتلك الحتمية التطورية النابعة من الذات لا تخل بها حقيقية ان جزءا كبيرا من نصف الاصوات المتبقية ذهبت الي مرشحين قريبين من شعارات الثورة مثلما لن تخل بها النتيجة النهائية للانتخابات, التي ستثبت مرة اخري انها قريبة من الواقع في تعبيرها عن رغبات الناخبين ومصالحهم الآنية. هناك دروس اذن ينبغي للقوي السياسية علي طرفي الصراع بشأن الثورة ان تتعلمها من هذه التجربة وهي مقدمة علي استكمال مهمات الفترة الانتقالية, وخاصة الانتهاء من الانتخابات الرئاسية وكتابة الدستور والاستفتاء عليه, وعلي رأسها ان تنتبه الي انها لا تتعامل مع كتلة صماء, بل مع مجتمع حي يدرك, مهما كانت نسبة الامية والفقر ودرجة السلبية او التردد فيه, قوانين التغير, بل الاكثر من ذلك, يدرك ان التغير الوحيد هو التغير المطلوب لادارة كل مرحلة من مراحل الثورة علي حدة, وان التجربة تأتي اولا, في حين يأتي التنظير ثانيا, بعد الادراك والمعرفة السليمين. علي ارض الواقع يعني هذا كله ان علي اطراف الحراك السياسي الجاري للتصدي لنتائج الانتخابات ان لا ينظروا لما جري من برج عاجي, وان يدركوا ان ثمار الثورة لا تأتي سريعا, وان عليهم ان يبلوروا رؤي ومواقف واقعية تتفق مع المزاج العام للمجتمع وتطلعاته المستمدة من خبرته الجديدة, وليس التعالي عليه او محاولة فرض شروط تعجيزية تتعارض مع قاعدة التغير والتطور الاجتماعي التي تمليها الحاجة, ومع المبدأ الجوهري للعملية الديمقراطية في ان الشعب هو مصدر السلطات. واذا ما كانت هناك مخاوف من ان مفارقة الانتخابات الرئاسية ستؤدي الي وضع السلطة بيد غير المتحمسين للثورة او سراقها او اعادة انتاج النظام البائد, فانها يمكن ان توفر ايضا فرصة مهمة للقوي المساندة لتوسيع قاعدة الثورة الاجتماعية ووضعها علي سكة صحيحة من خلال تنظيم نفسها وعبر رؤي نافذة وتكتيكات صائبة.ان جوهر المسألة هنا ليس فقط صعوبة عودة عجلة التاريخ في مصر الي وراء, بل ان المصريين لم يعودوا جماهير افتراضية, بل أناس بدأوا يسهمون في الشئون العامة ويقررون مستقبلهم الآن في يوم الانتخاب وغدا في كل يوم. ان المهمة الاساسية للقوي الثورية الآن تكمن في كيفية تحويل ذلك اللاوعي الجمعي الي فعل واع ناضج من خلال جعل نحو 13 مليونا من الناخبين الآخرين الذين شاركوا في الجولة الاولي وملايين غيرهم ممن لم يشاركوا وظلت اكثريتهم خارج الاستقطابات وثنائية الاسلاميين والفلول, تنخرط في العملية الجارية وتسهم في صياغة الدستور واستكمال مهمات الثورة, وعلي رأسها تعزيز منظومة الحقوق الاساسية وترسيخ قاعدة الانتخاب الحر النزيه والتناوب علي السلطة والمشاركة فيها, والاهم من كل ذلك استذكار روح الثورة والسعي لتحقيق اهدافها في الحرية والعدل والمساواة. المزيد من مقالات صلاح النصراوى