تزايد مؤخراً الحديث الساخن والجدل حول الهجرة العكسية، بعد أن تبين لقطاع من اليهود الذين انطلت عليهم الدعاية بالتجربة الميدانية والمعايشة بأن العنصرية الصهيونية فى إسرائيل فجة تجاه اليهود!! ونظراً لأن إسرائيل قائمة على الفكرة الصهيونية والتى تقوم على الهجرة إلى «أرض إسرائيل» أو إلى «جبل صهيون»، ونظراً لأن الظاهرة اضطرت إسرائيل مؤخراً لاتهام المخابرات الروسية بالدفع بعناصر تعمل على إعادة المهاجرين الروس من إسرائيل إلى موطنهم الأصلى روسيا، وسواء أكانت هذه حقيقة وأن روسيا ترى الأجواء مناسبة لاستعادة مهاجريها، أم «نظرية مؤامرة»، أم تبرير للأسباب الحقيقية التى تدفع اليهود للهجرة العكسية والنزوح من إسرائيل، فإن الأمر ينم عن أزمة حقيقية، خاصة أن قطاعاً آخر من المهاجرين لا يكف عن التذمر والشكوى والاحتجاج هو قطاع المهاجرين من أثيوبيا..الظاهرة التى شهدت من قبل موجات كان أبرزها بعد حرب أكتوبر لا يقلل من حجمها تضارب الأرقام. ولا تجاوز إسرائيل الستين من عمرها، حيث لم تصمد مملكة إسرائيل فى التاريخ سوى 90 عاماً، مما يزيد من حالة التشنج الإسرائيلية حاليا فى التعاطى مع هذا الملف. تروج الدعاية الصهيونية بكثافة وبلا هوادة منذ أكثر من مائة عام أنها تؤسس لدولة اليهود، وأن هجرة اليهود لمملكتهم التاريخية هى الحل لما تسميه ب«المسألة اليهودية» والتى مفادها أن اليهود فى العالم حاولوا الاندماج والذوبان فى مجتمعاتهم إلا أن تلك المحاولات فشلت ولذا لا بديل عن تأسيس دولة وتحويل الديانة لقومية - ذات منطق داعش- فى حين أن الأرقام تؤكد عكس ما تزعمه الدولة الصهيونية لأن أعداد اليهود دائما فى العالم أكثر من أعداد اليهود فى «دولة اليهود» فأكثر من 60٪ من يهود العالم، البالغ عددهم نحو 16 مليون نسمة، يرفضون الهجرة إلى دولة اليهود، مع ملاحظة أن أبواب الهجرة مفتوحة بلا عوائق. مشكلة تذمر شريحة من يهود روسيا فى إسرائيل تثير مخاوف إسرائيل طالما أن الظروف الاقتصادية تحسنت هناك، فالكثيرون يؤكدون أن الأسباب الاقتصادية هى التى دفعت مليون روسى للهجرة الإجبارية لإسرائيل، حيث لم يكن مسموحا سوى بالهجرة لإسرائيل دون بدائل أخرى، وفى المقابل يبدى الأثيوبيون ضيقهم الشديد من اتهام المجتمع الصهيونى لهم بأنهم هاجروا إلى إسرائيل فقط بسبب القحط والجفاف ومن عنف الشرطة الإسرائيلية ضدهم بلا سبب أو رادع. وترى كلا الطائفتين أن الوظائف المناسبة يتم حجبها عنهم فى عنصرية، مع ملاحظة أن ذوى الأصول الروسية والأثيوبية لا تعترف مؤسسات دينية بيهودية أغلبهم وتجبرهم، إذا ما اضطروا للاستعانة بحقوق أساسية تحتكرها المؤسسات الدينية مثل الزواج والطلاق والدفن، على اجتياز عمليات تهويد معقدة ومكلفة!! الأرقام الرسمية للهجرة العكسية متضاربة وسط اتهامات بالكذب والخيانة، لكنها فى جميع الأحوال تعترف بوجود زيادة، فبعض الإحصائيات تزعم أن من نزح بشكل نهائى خلال العام الماضى لا يتجاوز 10 آلاف فرد، بينما تصل إحصائيات بالرقم إلى 16 ألفا (بينهم 800 من فلسطينى 48 فقط). وتبلغ الأرقام بطريقة إحصاء أكثر موضوعية 400 ألف، حيث لا تضم بعض طرق الإحصاء النازح إلا إذا استمر متغيباً عن إسرائيل سبع سنوات كاملة.. وهو بالطبع ما يمكن قطعه بزيارة خاطفة كل ست سنوات ونصف مثلا فيصدر الإحصاء غير معبر عن حجم الظاهرة من باب طمأنة وزارة الداخلية للرأى العام وللمستثمرين بشكل خاص. وتتمثل دوافع الهجرة العكسية فى زيادة مستوى الدول البديلة مقارنة بمستوى العيش فى إسرائيل، والتأكد من أن إسرائيل غير قادرة على الدفاع عن نفسها بعد الفشل فى التعامل مع صواريخ حزب الله وإيقافها، والفشل حالياً فى وقف هجمات السكاكين ودحر المقاومة الفلسطينية نهائياً.. وربما كان من بين الدوافع المسكوت عنها هو.. وخز ضمير متأخر. الظاهرة وصلت كذلك إلى الطبقات العليا والمتحققة بالمال والشهرة، فبات عدد منهم يهددون من حين لآخر بالهجرة العكسية، مثل الإعلامى الشهير «رونى دانيال» الذى صرح مؤخرا بأنه يؤيد النزوح: لا أريد أن يبقى أولادى للعيش فى إسرائيل. وقول مهاجر يعيش فى وضع اقتصادى مريح لدى مليون سبب للهجرة العكسية لا مستقبل فى إسرائيل. ويمكن فى هذا السياق التنويه إلى تداعيات تلك الموجة من الهجرة العكسية بعودة الشرائح الأكثر تمسكاً بهويتهم الثقافية (الأثيوبيين والروس) لبلديهما الأصليين، فى حالة ما إذا ما تحسنت الأحوال الاقتصادية فى أثيوبيا، فالتأكيد سيؤثر هذا على تركيبة المجتمع الأثيوبى وسيتيح فى المقابل دس عناصر مجندة لتحقيق أهداف إسرائيل فى هذا المجتمع الذى يعانى قلاقل المتمردين اقتصاد بائس. الأمر ذاته ينطبق على روسيا التى لا تزال يحمل جيشها علم الاتحاد السوفيتى السابق متشبثا بقدرتها على العودة لنفوذها وتأثيرها السابق. فى المقابل سيعانى المجتمع الإسرائيلى كثيراً لو استفحلت الظاهرة وتفشت بين أكثر من مليون مهاجر روسى ونحو 140 ألف إسرائيلى من أصل أثيوبي، ستضطر تل أبيب للاستعانة مجددا بالفلسطينيين للعمل فى مجال التشييد والبناء، وكذلك فى مجال الزراعة وجمع المحاصيل، وهو ما حاولت الحكومات المتعاقبة الاستعاضة عنه بجلب عمال من تايلاند ودول أخرى رخيصة العمالة إلا أن التجربة لم تكلل بأى قدر من النجاح نظراً لأن التكلفة النهائية لا يمكن مقارنتها بعامل محلي.. مع ملاحظة أن العامل الفلسطينى يمثل خطراً أمنياً دائماً، حيث تعددت عمليات الإغلاق والمنع فيما سبق الأمر الذى كان يتسبب فى خسائر اقتصادية لإسرائيل ولتلك العمالة على حدٍ سواء. نيات روسيا تجاه الشرق الأوسط وتجاه رد لطمة تفكيك الاتحاد السوفيتى من الداخل، وكذلك غضبة الأثيوبيين فى إسرائيل من تفاقم العنف ضدهم يستحق مزيد من المتابعة والرصد لأن تداعياته ستكون تاريخية على إسرائيل والمستويين الإقليمى والدولى على حد سواء. لمزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور