"خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم، وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة، وفي اليوم رجال الغد، لا تجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة الله، ولا يشغلهم فقر، ولا يطغيهم غنى، ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علوا في الأرض، ولا فسادا.. فأصبحوا عصمة للبشرية، ووقاية للعالم، وداعية إلى دين الله". هكذا وصف "أبو الحسن الندوي"، الصحابة، رضي الله عنهم، في كتابه: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، مبينا الفوارق بين جيلنا وجيل الصحابة، ولعل أهمها "زهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة". رُوي عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: "أَنْتُمْ أَكْثَرُ صَلاةً، وَأَكْثَرُ صِيَامًا، وَأَكْثَرُ جِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ.. قَالُوا: فِيمَ ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: كَانُوا أَزْهَدَ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ مِنْكُمْ فِي الآخِرَةِ". وروى الحافظ ابن عساكر بسنده عن يوسف بن عطية قال: "حدثنا المعلى بن زياد، قال كان هرم ابن حيان يخرج في بعض الليل، وينادي بأعلى صوته :عجبت من الجنة كيف نام طالبها؟ وعجبت من النار كيف نام هاربها؟ ثم يقرأ قوله تعالى: "أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ".(99). (الأعراف). وعاش الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومات: زاهدا متواضعا، لا ثريا مكثرا. وكذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي؛ رضي الله عنهم أجمعين: زهدوا في الدنيا، بل لم يكونوا ليجمعوا بين طعامين في وجبة واحدة. وربَّى الله، سبحانه وتعالى، رسوله، صلى الله عليه وسلم، وربَّى الرسول، صلى الله عليه وسلم، أصحابه، رضي الله عنهم، على ذلك. فقال تعالى: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ".(طه:131). وكان علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول كثيرا: "يا دنيا , غُرِّي غيري". وصلَّى الفجر يوما بأصحابه في الكوفة، وهو أمير للمؤمنين، فلما فرغ من صلاته، جلس ساهما حزينا، ولبث في مكانه، والناس من حوله يحترمون صمته، حتى طلعت الشمس، واستقر شعاعها على حائط المسجد، فنهض، وصلى ركعتين، ثم هز رأسه في أسى، وقلب يده. وقال: "والله.. لقد رأيت أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئا يشبههم.. لقد كانوا يصبحون، وبين أعينهم آثار ليل باتوا فيه سُجدا لله، يتلون كتابه، ويراوحون بين جباهم وأقدامهم.. وإذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم". وهذا "عثمان بن عفان"، رضي الله عنه، كان ربما استغرق الليل كله في ركعتين، يظل يقرأ فيهما من القرآن حتى تروى روحه الظامئة المشتاقة. "وحينما شدَّ عليه زعماء الفتنة كان يقرأ القرآن، حتى وصل إلى قوله تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل".(آل عمران: 173). فلم يبال بهم، واستمر في قراءته، وحين أصابت إحدى ضرباتهم الآثمة كفَّه، لم يزد على أن قال: "واللّه.. إنها لأول كفٍّ خطتِ المُفَصَّل، وكتبت آي القرآن". وحين رأى دماءه تتفجر فتُضَمِّخ المصحف، طواه حتى لا تطمس الدماء آياته، ثم ضمه وهو يسلم الروح إلى صدره.. فلقد كان كتاب الله لصيقه، وصديقه"، بحسب تعبير "خالد محمد خالد"، يرحمه الله. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد