في الحرب الثقافية الباردة يقف عام1955 في الصدارة, إذ نشأت فيه علاقة عضوية بين المخابرات المركزية الأمريكية وكبار المفكرين الدوليين. والسؤال إذن: كيف نشأت هذه العلاقة العضوية؟ في عام 1950 أسست المخابرات المركزية الأمريكية منظمة الحرية الثقافية لكي تكون منتدي للمثقفين, ومعها أصدرت مجلة انكونتر أي الملتقي لنشر آراء هؤلاء المثقفين. وتوقفت في عام 1991 إثر انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي عام 1953 مات ستالين, ولكن الستالينية بقيت حية, إذ تحولت إلي ايديولوجيا منغلقة علي ذاتها تلزم الفلاسفة والعلماء والفنانين بتطبيقها في مجالات المعرفة المتباينة. وعندما انتخب خروشوف سكرتيرا أول في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي أعلن أن ستالين كاذب ومصاب بالهوس وأطلق الرصاص علي 70% من أعضاء اللجنة المركزية, ومع ذلك بقيت الستالينية ولم تندثر. وفي عام 1955 عقدت منظمة الحرية الثقافية مؤتمرا في ميلانو بإيطاليا, وكانت الغاية من عقده مقاومة الايديولوجيا الشيوعية المنغلقة, والبحث عن كيفية القضاء عليها هي أو أيةهايديولوجيا أخري. شارك في المؤتمر مئات المفكرين من الليبراليين والمحافظين, ودار الحوار حول نهاية عصر الايديولوجيا, ذلك أن الكارثة, عند هؤلاء المشاركين, تكمن في الايديولوجيا أيا كانت. وفي الجلسة الأولي ألقي عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون المحاضرة الرئيسية تحت عنوان نهاية العصر الايديولوجي. وإثر انتهاء المحاضرة دار الحوار حول امكانية تحقيق هذه النهاية. وكان من رأي آرون أن هذه النهاية لازمة لأنها صحية, إذ الايديولوجيا عقبة أساسية أمام تطور الدولة. ثم حدد الايديولوجيات التي ينبغي سقوطها وعددها ثلاث: القومية والليبرالية والماركسية. القومية بطبيعتها منغلقة علي ذاتها, ومن ثم فهي لا تستقيم في وجودها مع ظاهرة الاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب. والليبرالية ليست صالحة لأنها تفضي إلي فقدان الحس بالجماعة وفقدان الحس بالالتزام. أما الماركسية فسقوطها لازم لأنها زائفة. وكان المتحدث هو عالم الاجتماع الأمريكي دانيل بل الذي كان مسئولا عن منظمة الحرية الثقافية في عقد الندوات الدولية فيما بين 1956 و.1957 أعلن, في محاضرته, أن نهاية الايديولوجيا, في أمريكا, قد تحققت بلا مقاومة لأن الايديولوجيا, في رأيه, ليست أفكارا مجردة حاكمة للبشر إنما هي أفكار مطعمة بالأهواء, وأن هذه الأهواء تدفع الايديولوجيا إلي مستوي المعتقد المطلق. وبهذا المعني تكون الايديولوجيا مرادفة لما يسميه بل ب الدين العلماني. والدين العلماني ليس في إمكانه أن يكون بديلا للدين الحقيقي لأنه لا يثير أي سؤال متعلق بهموم الانسان: من أين جاء؟ وإلي أين هو ذاهب؟ وفي عام 1960 أصدر دانيل بل كتابه المعنون نهاية الايديولوجيا وفيه يقول عن نفسه إنه ضد الايديولوجيا ولكنه ليس من المحافظين الذين يرتعبون من الجماهير, إذ كيف نرتعب وأمريكا مجتمع جماهيري. يكفي الجماهير زهوا أنها تطالب بسن القوانين لمنع ارتكاب الخطأ. ولم يقف الحوار حول الايديولوجيات ونهايتها عند حد منظمة الحرية الثقافية, إنما تجاوزه إلي اتحاد الطلاب المسيحيين العالمي عندما أصدر عددا خاصا لمجلته التي تصدر عنه وكان عنوانه آيات العصر. وجاء علي الضد من تيار نهاية الايديولوجيا بدعوي أن أي نسق ليس في إمكانه أن يكون خاليا من الايديولوجيا, ولكن ليس أي ايديولوجيا, بل الايديولوجيا التي ليست مطلقة, لأن من شأن الايديولوجيا المطلقة أن تفضي إلي إبادة المعارضين علي غرارإبادة اليهود من قبل الايديولوجيا النازية المطلقة. وفي عام 1973 ألقيت بحثا في المؤتمر الفلسفي العالمي الخامس عشر في فارنا ببلغاريا انتقدت فيه مفهوم نهاية الايديولوجيا بدعوي أن الايديولوجيا هي في صميم كينونة الانسان بحكم قدرته علي مجاوزة الواقع من أجل تغييره, ولكن الايديولوجيا تمتنع عن إحداث التغيير اذا تحولت إلي معتقد مطلق. ومع ذلك فهذا التحول لا يستقيم مع مسار التاريخ الانساني, ومن ثم يلزم نفيه. وفي حالة نفيه يكون الانسان بلا ايديولوجيا. ولكن هذا النفي مؤقت إذ يعقبه إبداع ايديولوجيا جديدة. وهكذا تكون نهاية الايديولوجيا مؤقتة وليست دائمة. واذا أردت مزيدا من الإيضاح فانظر إلي حال مصر. فماذا تري؟ ايديولوجيا منغلقة علي ذاتها هي ايديولوجيا الاخوان المسلمين, وهي لهذا في طريقها إلي الفناء من أجل تأسيس ايديولوجيا جديدة. والسؤال إذن: ما هي هذه الإيديولوجيا الجديدة؟ الجواب في المقالات القادمة. المزيد من مقالات مراد وهبة