تحفر رواية المهاجرة الفلسطينية سوزان أبوالهول بينما ينام العالم أخاديد عميقة في جسد الأرض والإنسان الفلسطيني, فعلي الرغم من استغراقها المراحل كلها فلا تقفز بين الأجيال والأحداث بنزق من يلهث وراء التاريخ. بل تعرف كيف تستقطر عصارة الخبرة المختمرة في الروح وتعكس ملامحها في الوجه واللفتات, فإذا بقي شيء عالق في الذاكرة من الجد يحيي مثلا كان تجاعيد وجهه وعمق معرفته بشجر الزيتون, فهو يقول عن المستوطنين الجدد هؤلاء الناس لا يعرفون أي شيء عن الزيتون, إنهم غرباء, بشرتهم بيضاء بلون الزنبق.. حقيقة أن غصن الزيتون يزهر في السنة مرة واحدة فقط, لذا يتم تقليم الأشجار فور الانتهاء من جمع الموسم في أوائل الشتاء لإفساح المجال للأغصان الندية كي تزهو في الربيع, وحقيقة أن أسوأ عدو للزيتون هو ذبابة صغيرة مخرمة الجناحين, وحقيقة أن من الأفضل رعي الأغنام بين شجيرات الزيتون لأن زبلها يزود التربة بالنتروجين اللازم فإن الحقيقة الكبري هي الفائدة التي يجنيها المزارع من كل ما يخرج من الشجرة المباركة, الثمر وزيته, خشب الزيتون وحطبه, الجفت الناتج بعد استخراج الزيت وهو خير ما يضاف إلي الحطب للحصول علي نار حامية وقوية, ورق الزيتون ذو الفوائد الطبية, وحتي الماء الناتج بعد استخراج الزيت ويسمي عكرا يصلح لتنظيف ما يعجز الصابون النابلسي عن تنظيفه وبالطبع فإن إنسانا مثل هذا سيموت عن اختراقه لحصار القرية وخروجه من عزلة المخيم, ستصيبه رصاصات العدو بينما يقبض في يده علي غصن زيتون وحباة صغيرة يتشنج عليها كفه, أما حفيده يوسف فقد ألقت به نكسة 67 في المصير المجهول ذاته. تلعب الندوب النفسية والجسدية دورا غائرا في الإيقاع الملحمي لرواية بينما ينام العالم فعند نقطة التفتيش أمام الحاجز يوقف الجندي ذو الأصل الأمريكي صف العابرين ويأمريوسف بالتنحي جانبا ثم يطلعلي زميله دافيد الذي كان في سيارة الجيب ويصيح به قائلا بضحكة مجلجلة هيا تعال وانظر إلي هذا العربي, إذ يبدو كأنه توأم لك يفزع دافيد من هذا السر الذي لا يريد أن يعرفه, ويقترب من الفلسطيني مسترقا النظر من تحت خوذته, وقف الرجلان وقد جمعهما تطابق زوايا فكيهما, غمازتان متشابهتان في ذقنيهما وامتلاء متساو في الشفاه وكانت ردة فعله أن صفعه دافيد وأخذ يضربه بعقب بندقيته ويركله في خاصرته حتي خلصه زميله منه كي لا يضطر إلي ملء جميع النماذج المطلوبة للتبليغ عن حالة وفاة عند الحاجز, ويظل السر عالقا في رقبته سنوات طويلة حتي يشارف أبه موشيه الموت فيعترف بالحقيقة التي هرب منها, أما يوسف الذي تعرف علي أخيه بعلامة الندبة الواضحة في وجهه فقد أسرها في نفسه وإن كانت أخته الصغري آمال قد سمعته يفضي به إلي صديقه. وعندما تنطق آمال وحدها بصوت الرواية تسجل ما حدث في مارس عام 1968 عندما انخرط أخوها يوسف في أول دفعة للمقاومة بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لكن أهم ما تتبعه الرواية من أحوال يوسف هو انتقاله بعد هذه المرحلة إلي بيروت, وزواجه من حبيبة صباه فاطمة في مخيم شاتيلا, وكيف رزقا بابنتهما التي أسمياها فلسطين حتي إذا وقع غزو لبنان, واضطر يوسف ورفاقه للمغادرة دمرت إسرائيل مخيم صبرا وشاتيلا والتقطت أجهزة الإعلام صورة فاطمة الممزقة وابنتها بين يديها فيجن يوسف ويدبر لانتقام مروع من حامية الكيان الصهيوني. يتركز منظور الرواية التي تقع في خمسين فصلا في شخصية آمال التي تترك قريتها راغمة بعد مصرع ذويها وشتات أهلها كي تلتحق بملجأ للأيتام في القدس, وعندما تظهر تفوقها تظفر بمنحة دراسية للولايات المتحدةالأمريكية, ومن هناك يتسع مدي رؤيتها الفكرية والوجدانية وتمر بأصعب التحولات النفسية, لكن الخيط الذي يشدها إلي أهلها بقوة سرعان ما يحملها إلي العودة لتعيد غرس جذورها في المخيم اللبناني البديل لقريتها, وعندما تحكي بتحنان غامر قصة تولد الحب بينها وبين ماجد الطبيب الذي دبروا الظروف كي يقترن بها فإنه ما ينبسط في السرد من مساحات الفرح والحب وتآلف العواطف والأحزان تكون فواجع المصير الفلسطيني المحتوم باترة لخلايا الحياة وشديدة الوقع علي مصابيها والتأثير علي قرائها. بعد احتدام الغزو الصهيوني اضطرت آمال إلي العودة لأمريكا وتركت زوجها يقوم بواجبه الطبي حتي دفن تحت أنقاض المستشفي, وبعد أن رأت صورة زوجة أخيها وابنته الذبيحة واقتحم رجل مجهول بشاحنة محملة بالمتفجرات مجمع السفارة الأمريكية بلبنان حيث قتل العشرات وأصيب المئات فوجئت آمال بأجهزة الأمن الأمريكية تفتش منزلها في فلادلفيا لأن الشبهات تحوم حول أخيها يوسف الذي أصبح مطلوبا علي شاشات التليفزيون, تنظر أخته إلي منضدة صغيرة بجوار سريرها لتجد عليها صورة قد التقطتها ليوسف وفاطمة وفلسطين الرضيعة في مخيم شاتيلا الذي أصبح ميدان قتل ومقابر جماعية الخطوط حول عين يوسف كلها مرسومة بالحب, ابتسامته الواسعة معلقة من طرفي شاربه الميراث المعتني به من حنان جدنا يحيي الذي كان أخي يشمعه ليحافظ علي مظهره, بدا يوسف بسيطا في تلك الصورة متجمدا في ابتسامته العريضة التي تبرزأسنانه وفلسطين المولودة حديثا تستلقي علي أحد ذراعيه, وفاطمة حبة حياته تتكئ برقة علي كتفه الأخري علي الرغم من بقية الفصول التي يسعي فيها دافيد للقاء أخته آمال في الولاياتالمتحدة وما تحمله من رمزية إمكان المهادنة بين الأخوة الأعداء في فلسطين فإن النهاية الفاجعة لآمال برصاصة قناص يهودي بعد عودتها زائرة لقريتها الأصلية جنين تقطع هذه الإمكانية وتحدد دلالة الرواية الملحمية حيث تشهد بأن فلسطين تتهود بينما ينام العالم. المزيد من مقالات د. صلاح فضل