يا مصر هانت وبانت (دار الشروق,2012) هو ثالث ديوان بالعامية المصرية للشاعر المصري الفلسطيني تميم البرغوثي بعد المنظر (دار الشروق 2002) وقالوا لي بتحب مصر: قلت مش عارف (دار الشروق 2005). ولا يأتي اختيار شاعرنا للدارجة أو العامية المصرية صدفة بل هو موقف شاعر يعي تماما أن علاقة النص الشعري بالإطار المرجعي الذي يصدر عنه هي علاقة تفاعلية وأن هذا الشعر موجه للجمهور قي المقام الأول. تفتتح قصيدة يا مصر هانت وبانت الديوان وقد كتبت يومي 25 و26 من يناير 2011 و ألقيت علي الجمهور فجر يوم27 يناير عبر الأثير مباشرة وأتذكر أنني سمعتها وكانت تذاع مباشرة ويسمعها مئات آلاف المرابطين في ميدان التحرير فكأنه شاعر من شعراء الحماسة في تراثنا العربي; هو الفارس الذي يدخل المعارك ويعايش الملاحم ناظما الشعر يلقيه علي المحاربين فيشعل حماسهم. ويستشعر القاريء النبوءة التي أتت بها القصيدة مبشرا أن النهاية قد قربت وأن النظام قد سقط فعلا و مؤكدا في حكمة أصبحت مقولة من مقولات الثورات العربية: يا ناس ما فيش حاكم إلا من خيال محكوم. وفي سعي البرغوثي إلي رفع اللغة العامية إلي آفاق أوسع وأرحب حيث تتحول الكلمات إلي صور ودلالات تعطي عمقا واكتمالا للغة اليومية. صباح الحرية يحث الشاعر الصباح الممتليء بالنور والحرية أن يظهر لينير لنا عتمة الليل والقهر الطويل: الصبح عنده فضول راح نعمل إيه بكرة/إيده علي الباب وخايف يلمس الأكرة/أدخل يا أستاذ براحتك والبلد حرة/ إحنا زهقنا نشوف الصبح من برة. وتحاور هذه القصيدة, القصيدة الثانية في الديوان يا شعب مصر هذه القصيدة الفذة التي أعتبرها ملحمة ثورة25 يناير ففيها يستخلص الشاعر أنقي ما في التراث الشعبي من صور فيمتزج الحاضر المعاش بالماضي والتاريخي ولكنهاتعكس تناقض هذا الشعب في صوره العفوية والجريئة في آن, الطازجة والمكتظة بتراكم المحن والنضال الوطني الطويل في الوقت نفسه. يصف الشاعر شعب مصر بالآتي: شعب بغزالة إتخنق قلب التاريخ في يومين/لابس عباية جحا وهو صلاح الدين/بيكرم الأنبيا ويهزأ السلاطين. وكما حث الشاعر المتظاهرين في الميدان أن يثبتوا لأن النصر قريب كما رأينا في يا مصر هانت وبانت, يستشعر الشاعر رغبة الجماهير في ترك الميدان فيحثهم علي البقاء خوفا من إطفاء جذوة الثورة (وياليتهم انتبهوا وامتثلوا): سايق عليك النبي ما تقول كدة كفاية/ الثورة دي بداية زي الهجرة والميلاد/ الثورة دي بسملة كمل بقي الآية/مع كل مرة قراية حسنها يزداد. قارن هذا بما قاله في قصيدته بكاء علي الأطلال التي كتبت في ديسمبر2009 كنموذج لمحاورة قصائد الديوان بعضها بعضا. وأزعم أن أي قارئ يعي معني الغربة و الاغتراب في وطنه ويدرك أبعاد مأساة الشتات في الحالة الفلسطينية لمن شأنه أن يتوحد تماما مع حالة الذات الكاتبة وهي حالة الشاعر نفسه- كما عبرت عنها أبيات القصيدة الرائعة المفتاح والباب (كتبت عام2006) حيث الشعور بالغربة ومأزق الشاعر الوجودي الذي يتواشج مع شعور الاغتراب داخل ما يجب أن يكون وطنه مصر (رغم أنف أمن الدولة): أنا مزنوق في الباب من فترة/... مزنوق في تشبيهي المصري/ مصر مجاز عن كرشة نفسي. وتتجلي هذه السمة أكثر في باقي قصائد الديوان والتي كتبت معظمها في الغربة ويغلب عليها التجربة الذاتية ومحنة الوجود ذاتها كما تشير عناوين قصائد الغربة اذا جاز لنا أن نسميها هكذا: سهران في الغربة لوحدي, عايز أستقيل, يا قصيدة ارمي حبالك وانشليني. فتمثل العديد من الأشعار في هذه المجموعة الصراع العنيف بين الوجود الحقيقي الواقعي والوجود اللغوي داخل القصيدة أو داخل العالم المجازي,كما نجد في قصيدة ناقة الله حيث يتخذ الشاعرمن قصة النبي صالح وناقته دعما لرؤياه الشعرية والوجودية. فالناقة التي كانت مبسوطة بمرعاها وعيالها قتلت و قالوا موتها اداها معني; ولا تنظر الذات الكاتبة بعين الشك والارتياب للواقع فحسب بل تمتد سخريتها الي العالم المجازي داخل القصيدة فيتساءل الشاعر لو في يوم ماتوا عشان المعني/بكرة يقتلوا المعني ف غضب شامل وواضح. الميدان في الديوان للميدان( ميدان التحرير) حضور كبير في أشعار تميم البرغوثي. فهل تنبأ تميم بحس الشاعر أن هذا الميدان سيكون له شأن عظيم ؟ والمدهش أن حالة الميدانكما حال مصر- لم تكن أبدا ثابتة في دواوينه الثلاثة; ففي ديوانه الأول المنظر يشير الشاعر في قصيدته العبقرية النملة إلي ميدان التحرير. أما في ديوانه الثاني بالعامية المصرية قالوا لي بتحب مصر فنجد أن لميدان التحرير وضعا خاصا بل ومركزيا في قصيدة الديوان الأولي, قالوا لي بتحب مصر. هنا يصبح الميدان هو مسرح الأحداث الرئيسي بل هو القلب النابض لحركات الاحتجاج وانطلاق المظاهرات الأولي المنددة بضرب العراق قبيل الاجتياح الأمريكي لها عام2003; أما في ديواننا, يا مصر هانت وبانت فغني عن الذكر دور ميدان التحرير حيث الشمس- شمس الحرية- الطالعة متونسة بالميدان وبعشرته ونسبه( يا شعب مصر). ولا يقتصر استلهام الشاعر للتراث علي استخدامه لفن المقامة العربي والموال الشعبي المصري ولاسيما مواويل الشاعر ابن عروس بمربعاته الشهيرة بل ينوعها سواء في عدد السطور أو في إعادة صياغة الحكم والأمثال الشعبية; إلي جانب استحضار التاريخ بشخصياته وعمل إسقاطات علي الحاضر بروح ساخرة تربط بوشائج فنية وروحية عميقة القصائد بالتراث الشعر العامي المصري بشكل عام. ولا يفوتنا هنا أن نشير الي نجاح تجربة مزاوجة الشعر بالغناء فلقد غني الفنان مصطفي سعيد بعضا من أشعار تميم البرغوثي علي العود في تجربة رائعة تذكرنا بثنائيات الغناء السياسي سواء كان معتمدا أو رسميا- كما حدث في تجربة الأبنودي وجاهين مع عبد الحليم حافظ, وقبلها بطبيعة الحال تجربة بيرم وسيد درويش, أو كانت غير رسمية بمعني أنها تسخر من الواقع السياسي وتحرض الجماهير علي رفضه كما هو الحال في تجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام والثنائي سمير عبد الباقي والفنان عدلي فخري. وبطبيعة الحال هناك فرق فني جوهري بين هذه التجارب وتجربة البرغوثي/سعيد ففي حين اعتمدت أشعار نجم والشيخ امام علي سبيل المثال- علي ايقاعات شعبية رائجة وهي أشعار غنائية في المقام الأول, فان قصائد تميم البرغوثي تتسم معظمها بطول البيت الشعري لأنها تكتب في الأساس للقراءة لاللغناء, ومع ذلك فهي تجربةتستحق الاستمرار و يمكن أن تقدم مجالا خصبا للدراسة ولتسليط الضوء علي إمكانتها الموسيقية وطاقاتها الفنية الكامنة. بقي أن نشير إلي رسم الغلاف والرسوم الداخلية للفنان التشكيلي المبدع وليد طاهر الذي قدم لنا لوحات تعبيرية مستوحاة من فن البورتريه والكاريكاتير- أحد إبداعات الفنان- مطعمة ببعض اللمحات السيريالية فجاءت متوافقة ومكملة لمعني القصائد. فاتن مرسي أستاذ الأدب الانجليزي المقارن بكلية الآداب جامعة عين شمس