كيف ستكون السياسة الخارجية الأمريكية فى العالم العربى بعد رحيل الرئيس باراك أوباما عن البيت الأبيض فى يناير المقبل؟ الدلائل شبه المؤكدة تشير إلى أن هيلارى كلينتون والملياردير دونالد ترامب سيحظيان بترشيح الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى يوليو المقبل وانهما سيتواجهان فى الإنتخابات الرئاسية فى نوفمبر القادم. فماذا يحمل كلا منهما فى جعبته لقضايا ونزاعات العالم العربى؟ لعل أبرز الخلافات بين المرشحين لرئاسة الولاياتالمتحدة تتمثل فى نظرتهما الكلية لدور وموقع السياسة الخارجية فى الدفاع عن المصالح الأمريكية. فإذا كانا يتفقان على ضرورة الحفاظ على الدور القيادى للولايات المتحدة فى السياسة الدولية وعلى ضرورة التغلب على المنافسة التى تبديها كلا من روسيا والصين، فإنهما يختلفان حول أسلوب ووسائل تحقيق ذلك. فدونالد ترامب جعل شعار حملته الإنتخابية "أمريكا أولا". وهو يعنى بذلك ضرورة التركيز على بناء القوة الإقتصادية والعسكرية الذاتية للولايات المتحدة -التى يرى أنها تعرضت لتدهور كبير فى السنوات الماضية- قبل الإنخراط فى أى تدخلات أومغامرات عسكرية أمريكية فى الخارج تستنزف موارد بلاده. وهو بذلك يعد من أنصار الإنعزالية الدولية للولايات المتحدة. وذاك إتجاه قديم فى السياسة الأمريكية. ومن المفارقة ان نظرته تلك، وهو المنتمى للحزب الجمهورى، تقترب كثيرا من سياسة الرئيس الحالى المنتمى للحزب الديمقراطى المنافس. فأوباما شرع فى الإنسحاب التدريجى من شئون العالم العربى والشرق الأوسط منذ توليه السلطة فى يناير 2009. فقد سحب القوات الأمريكية من العراق بحلول ديسمبر 2011 وإمتنع عن توجيه ضربات عسكرية للنظام السورى، بعد أن هدد بذلك، حينما إتهمت دمشق بإستخدام السلاح الكيماوى ضد المعارضة فى أغسطس 2013. كما إكتفى بممارسة أدوار ثانوية فى نزاعات المنطقة بشكل عام، كما هو الحال فى سوريا واليمن وليبيا، تاركا المجال للاعبين دوليين وإقليميين أخرين، كروسيا وإيران، لملىء الفراغ. ومن المتوقع أن يمارس ترامب، إذا إنتخب رئيسا، نفس سياسة التردد والإحجام عن التدخل أوالتورط عسكريا فى نزاعات المنطقة. فقد ذكر على سبيل المثال أن السبب الوحيد الذى قد يدفعه للتدخل عسكريا فى العالم العربى هو محاربة تنظيم "داعش" الإرهابى فى سوريا وأعلن إستعداده لإرسال 30 ألف عسكرى أمريكى لهذا الغرض. لكنه عاد وأوضح إنه يفضل أن يقوم النظام السورى، بمساعدة روسيا، بتنفيذ تلك المهمة بدلا من واشنطن. أما هيلارى كلينتون فإنها تتماهى مع مؤسسة السياسة الخارجية التى كانت تقودها خلال فترة الرئاسة الأولى لأوباما (2009-2012). وبالتالى فهى تؤيد سياسة أكثر تدخلية للولايات المتحدة فى شئون العالم الخارجى، بما فى ذلك العالم العربى، للدفاع عن المصالح الأمريكية. ولذلك نجدها قد أيدت الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 قبل أن تتراجع فيما بعد عن هذا الموقف بعد إتضاح النتائج الكارثية له. كما أيدت التدخل العسكرى الغربى فى ليبيا لقلب نظام حكم معمر القذافى فى 2011 وتوجيه ضربات جوية لنظام الرئيس بشار الأسد بعد إتهامه بإستخدام السلاح الكيماوى ضد معارضيه. وبرغم هذه المواقف المبدئية، فان كلينتون تسعى فى حملتها الرئاسية لمحاولة إتخاذ مواقف وسطية بشأن إحتمالات التدخل العسكرى الأمريكى فى الخارج. فهى من ناحية تسعى لإظهار أنها تتخذ مواقف صلبة تجاه القضايا والنزاعات الخارجية التى قد تعرض المصالح الأمريكية للخطر، لكى تثبت أنها ستكون أكثر شراسة فى الدفاع عن مصالح بلادها فى الخارج بعكس ما قد يبدو على السياسة الإنعزالية لترامب. إلا إنها تؤكد فى نفس الوقت عدم إستعدادها للقيام بمغامرات خارجية متهورة كتلك التى إشتهر بها الرئيس الأسبق جورج بوش، لكى لا تخسر قواعدها فى الحزب الديمقراطى المعادية للتدخلات الخارجية والتى عبر عنها أوباما خلال ثمانى سنوات قضاها فى البيت الأبيض. ولا ريب أن نقطة التلاقى الرئيسية بين كلينتون وترامب تتمثل، كما هى العادة فى حملات الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، فى تأكيد التأييد المطلق لإسرائيل. وقد تبارى المرشحان فى إظهار ذلك أمام اللوبى القوى المؤيد لإسرائيل (أيباك)، الذى يفضل المرشحة الديمقراطية لخبرتها فى السياسة الخارجية ولأنه يعتقد أنها أكثر جدارة بالثقة من المرشح الجمهورى الذى يصعب التنبؤ بمواقفه المستقبلية نظرا لضعف خبرته بالسياسة الدولية. فهو إعتاد تبديل مواقفه وفقا لتطور الأمور. كما أن ترامب أعلن فى إحدى تصريحاته أنه سيتخذ موقفا "محايدا" بين الفلسطينيين والإسرائيليين إذا إستؤنفت المفاوضات بينهما، وهو ما لم يرق للوبى الداعم لإسرائيل. كما إنه قال ذات مرة إن خبرته فى مجال بيع وشراء العقارات ستساهم فى مساعدة الطرفين على التوصل لتسوية سياسية، وهو ما تم تفسيره من جانب جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل على إنه دليل دامغ على جهله بالنزاع الفلسطينى الإسرائيلى. وعلى الجانب الأخر، أعلنت كلينتون إنها ستدعم إستمرار التفوق العسكرى لإسرائيل على كافة جيرانها العرب وستساند تل أبيب فى أى مفاوضات مستقبلية مع الفلسطينيين وستحميها من كل محاولة دولية لفرض مبادىء للتسوية السياسية، فى إشارة لرفضها تدخل مجلس الأمن فى تحديد أسس الحل السياسى. وكانت بعض المصادر الأمريكية قد أشارت لإحتمال أن يلجأ أوباما لإستصدار قرار بهذا المعنى من مجلس الأمن بعد الإحباط الذى أصابه من جراء تصلب مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتانياهو المجهضة لأى تقدم فى عملية السلام. وينطبق نفس الأمر على المبادرة الفرنسية الأخيرة لعقد مؤتمر دولى لتحديد أسسس التسوية السلمية للنزاع الفلسطينى الإسرائيلى. ويأتى تفضيل إسرائيل والأيباك للمرشحة الديمقراطية برغم موقفها السابق المعارض لإستمرار سياسة الإستيطان الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وخاصة القدسالشرقية، باعتبارها عقبة أمام إستئناف مفاوضات السلام. وهو موقف أمريكى تقليدى عبرت عنه كلينتون عام 2010 عندما كانت تشغل منصب وزيرة الخارجية، حينما كانت واشنطن تسعى لإستئناف عملية السلام. والملفت أنها تجنبت خلال حملتها الإنتخابية حتى الأن ذكر أى موقف بشأن الإستيطان اليهودى فى الأراضى الفلسطينية، رغبة منها فى كسب ود اللوبى اليهودى. ويوضح هذا المثال الفجوة التى تفصل عادة بين المواقف التى يعلن عنها خلال الحملات الإنتخابية، بهدف كسب أصوات أكبر قطاع من الناخبين، والمواقف التى تمليها مصالح الدولة بعد الفوز فى الإنتخابات. ومن الواضح أن الرأى العام والنخب فى العالم العربى لا يحبذان كذلك المرشح الجمهورى بسبب مواقفه المناهضة للمسلمين وخلطه المتعمد أو عن جهل بين الإسلام والتطرف والإرهاب. فمواقف ترامب بهذا الشأن تتميز بالديماجوجية، أى محاولة إستغلال مشاعر المواطنين الأنية، والتى قد تكون ناجمة عن أحداث معينة مثل الأعمال الإرهابية، لتحقيق مآرب سياسية. لكن تلك المكاسب تكون باهظة الثمن وعواقبها وخيمة، لأنها تؤدى عادة لتشويه صورة قطاعات هامة وواسعة من البشر داخل أو خارج المجتمع وتسىء للتعايش السلمى داخل وبين المجتمعات. والدليل على ذلك إن ترامب وصم المسلمين جميعا بالتطرف الدينى حينما طالب الحكومة الأمريكية بوقف "إستيراد التطرف" من خلال وقف هجرة المسلمين للولايات المتحدة. لمزيد من مقالات د. هشام مراد