30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 13 يونيو 2024    قائمة مصاريف المدارس الحكومية 2024 - 2025 لجميع مراحل التعليم الأساسي    حريق هائل يلتهم مصفاة نفط على طريق أربيل بالعراق    انتعاش تجارة الأضاحي في مصر ينعش ركود الأسوق    تراجع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في الشرقية اليوم الخميس 13 يونيو 2024    القيادة المركزية الأمريكية تعلن عن تدمير ثلاث منصات لإطلاق صواريخ كروز للحوثيين في اليمن    ضربات أمريكية بريطانية على مجمع حكومي وإذاعة للحوثيين قرب صنعاء، ووقوع إصابات    «القاهرة الإخبارية»: حماس تعلن تعاملها بإيجابية في مفاوضات وقف العدوان على غزة    بريطانيا تقدم حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا بقيمة 309 ملايين دولار    قرار عاجل من فيفا في قضية «الشيبي».. مفاجأة لاتحاد الكرة    البرازيل تنهي استعداداتها لكوبا 2024 بالتعادل مع أمريكا    يورو 2024| أغلى لاعب في كل منتخب ببطولة الأمم الأوروبية    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: جحيم تحت الشمس ودرجة الحرارة «استثنائية».. مفاجأة في حيثيات رفع اسم «أبو تريكة» وآخرين من قوائم الإرهاب (مستندات)    حجاج القرعة: الخدمات المتميزة المقدمة لنا.. تؤكد انحياز الرئيس السيسي للمواطن البسيط    متى موعد عيد الأضحى 2024/1445 وكم عدد أيام الإجازة في الدول العربية؟    حظك اليوم برج الأسد الخميس 13-6-2024 مهنيا وعاطفيا    لأول مرة.. هشام عاشور يكشف سبب انفصاله عن نيللي كريم: «هتفضل حبيبتي»    محمد ياسين يكتب: شرخ الهضبة    حامد عز الدين يكتب: لا عذاب ولا ثواب بلا حساب!    عقوبات صارمة.. ما مصير أصحاب تأشيرات الحج غير النظامية؟    «اللعيبة مش مرتاحة وصلاح أقوى من حسام حسن».. نجم الزمالك السابق يكشف مفاجأة داخل المنتخب    «طفشته عشان بيعكنن على الأهلاوية».. محمد عبد الوهاب يكشف سرا خطيرا بشأن نجم الزمالك    أول تعليق من مغني الراب.. «باتيستويا » يرد على اتهامات «سفاح التجمع» (فيديو)    عيد الأضحى 2024.. هل يجوز التوكيل في ذبح الأضحية؟    تصل ل«9 أيام متتابعة» مدفوعة الأجر.. موعد إجازة عيد الأضحى 2024    مفاجأة مدوية.. دواء لإعادة نمو أسنان الإنسان من جديد    في موسم الامتحانات| 7 وصايا لتغذية طلاب الثانوية العامة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل اللحم المُبهر بالأرز    محمد عبد الجليل: أتمنى أن يتعاقد الأهلي مع هذا اللاعب    مصرع شاب غرقًا فى نهر النيل بالغربية    هل يقبل حج محتكرى السلع؟ عالمة أزهرية تفجر مفاجأة    التليفزيون هذا المساء.. الأرصاد تحذر: الخميس والجمعة والسبت ذروة الموجة الحارة    شاهد مهرجان «القاضية» من فيلم «ولاد رزق 3» (فيديو)    المجازر تفتح أبوابها مجانا للأضاحي.. تحذيرات من الذبح في الشوارع وأمام البيوت    أبرزها المكملات.. 4 أشياء تزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يواصل اجتماعته لليوم الثاني    24 صورة من عقد قران الفنانة سلمى أبو ضيف وعريسها    ما بين هدنة دائمة ورفع حصار.. ما هي تعديلات حماس على مقترح صفقة الأسرى؟    بنك "بريكس" فى مصر    الأعلى للإعلام: تقنين أوضاع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة وفقاً للمعايير الدولية    لماذا امتنعت مصر عن شراء القمح الروسي في مناقصتين متتاليتين؟    .. وشهد شاهد من أهلها «الشيخ الغزالي»    التعليم العالى المصرى.. بين الإتاحة والازدواجية (2)    حازم عمر ل«الشاهد»: 25 يناير كانت متوقعة وكنت أميل إلى التسليم الهادئ للسلطة    محمد الباز ل«كل الزوايا»: هناك خلل في متابعة بالتغيير الحكومي بالذهنية العامة وليس الإعلام فقط    هاني سري الدين: تنسيقية شباب الأحزاب عمل مؤسسي جامع وتتميز بالتنوع    أستاذ تراث: "العيد فى مصر حاجة تانية وتراثنا ظاهر فى عاداتنا وتقاليدنا"    الداخلية تكشف حقيقة تعدي جزار على شخص في الهرم وإصابته    اليوم.. النطق بالحكم على 16 متهمًا لاتهامهم بتهريب المهاجرين إلى أمريكا    مهيب عبد الهادي: أزمة إيقاف رمضان صبحي «هتعدي على خير» واللاعب جدد عقده    «رئيس الأركان» يشهد المرحلة الرئيسية ل«مشروع مراكز القيادة»    فلسطين تعرب عن تعازيها ومواساتها لدولة الكويت الشقيقة في ضحايا حريق المنقف    استقرار سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية بالأسواق فى ختام الأسبوع الخميس 13 يونيو 2024    سعر السبيكة الذهب الآن وعيار 21 اليوم الخميس 13 يونيو 2024    "لا تذاكر للدرجة الثانية" الأهلي يكشف تفاصيل الحضور الجماهيري لمباراة القمة    مدحت صالح يمتع حضور حفل صوت السينما بمجموعة من أغانى الأفلام الكلاسيكية    قبل عيد الأضحى.. طريقة تحضير وجبة اقتصادية ولذيذة    المزاد على لوحة سيارة " أ م ى- 1" المميزة يتخطى 3 ملايين جنيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كفيف أبدع صورا وأخيلة وألوانا موسيقية أبهرت كافة المبصرين
سيد مكاوى فقيه الألحان الذى أنطق الأرض العربية بفصاحة
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 05 - 2016

على ضفاف نيل المعادي ووسط عالم من البهجة، اجتمعت في هذه الليلة التي دعت لها الأديبة والفنانة التشكيلية «الدكتوره لوتس عبد الكريم» في بيتها الذي يعد متحفا مفتوحا،
يجمع ما بين روائع من اللوحات من إبداعها وآخرين أبرزهم الملكة فريدة، وألوان وأشكال من التماثيل التي تنتمى لأزمنة وثقافات متعددة، وأبرزها تمثال من الرخام الأبيض لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، بوقاره المعهود في ركن محوري يجلس في ثبات ليكون شاهدا حيا على أحداث تلك الليلة التي جمعتنا في حب سيد مكاوي، ذلك النهر الفياض بالنغم والموسيقى النابعة من تراب هذا الوطن، في حضور نجوم الفكر والفن والأدب والسياسة والصحافة.
تبدأ الليلة المصحوبة بأغانى سيد مكاوى بدردشة جانبية حول مولد سيد مكاوى فى أسرة شعبية بسيطة فى حى الناصرية فى منطقة السيدة زينب بالقاهرة فى 8 مايو 1926، وكيف كان كف بصره عاملا أساسيا فى اتجاه أسرته إلى دفعه للطريق الدينى بتحفيظه القرآن الكريم على حد قول الشاعر الكبير فاروق شوشة، فكان يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة فى مسجد أبو طبل ومسجد الحنفى بحى الناصرية، لكن شغفه للموسيقى والغناء، جعله مبكرا يمتطى جواد اللحن الشرقى الخالص وعلى صهوته استطاع أن يجوب الآفاق بحثا عن نغمة شاردة، أومعنى مستمدة من طين الأرض التى جعلها تتكلم بالعربية ، ولأكثر من 70 عاما ظل طائرا خفيف الظل والروح، رشيق الحركة الموسيقية بجناحى «سيد درويش – زكريا أحمد» الأثيرين، ويطوف بنا فى بستان النغم ينهل من شرقية بالغة الرصانة ليربطها بحديث اللحن الغربي، مستلهما كل عناصر الحياة الشعبية لينتج لنا ألونا مبهجة من الأدب الموسيقى ، وبعفوية الفقيه الموسيقى العالم ببواطن اللحن وصل إلى قلوب عشاق موسيقاه الروحانية التى تخلط ببراعة نادرة كافة معانى الوطنية مع التسابيح العلوية الباعثة على الشجن، والوصول لحالة الذوبان فى تجليات المولى عز وجل فى صورة أدعية وتسابيح تقوى على شفاء الجراح، وتسمو بالروح فى ملكوت العلى القدير.
مرادف الأصالة
هى ليلة خاصة إذن، جمعت بين ميلاد الرجل وذكرى رحيله، وبعفوية خالصة وحديث غير مرتب راح كل الحضور يهيمون شوقا وحبا ويزدادون بهاء كلما غاصوا فى بحار إبداع الشيخ سيد مكاوى ، ذلك الفنان والمطرب والملحن العظيم الذى اقترن بعصر الفتوة المصرية بجدارة ، وارتبط بتاريخ الفن الحديث بقدر من الرصانة والجزالة اللحنية الفريدة، حتى أصبح مرافا للأصالة، فناله من خلود الأهرامات وأبو الهول، على حد قول الكاتب الكبير والإذاعى القدير «محمد الخولي» الذى حلق بنا فى عالم «مكاوي» الغنائى الفذ وفسر لنا جانبا من ألحانه التى حضر بعضا من تسجيلاتها عن قرب، وكذا روحه التى كانت تتمتع بالطيبة الدعابة والسخرية اللاذعة فى حياء غير خادش.
ولأن «الخولى» بارع فى فن الحكي، ويعد واحدا من جيل لايعوض فى التبارى اللفظي، ووضع المصطلح العربى والإنجليزى فى مكانه الصحيح، دون خلل يفسد المضمون، استعرض علاقته الخاصة كإذاعى مخضرم مع الشيخ سيد مكاوى، الذى رافقه إذاعيا وحياتيا لبعض الوقت، وشرح لنا كيف كان هذا الرجل يحمل بين جوانحه روح الدعابة والوطنية فى مزيج فريد ومختلف قادم من طين الأرض وروح الحارة الشعبية، وتلك عناصر شكلت شخصيته النادرة ومنحته قدرا من الذكاء الاجتماعى الذى يندر وجوده فى هذا الزمان، وهو ربما ما جعله – بحسب الخولى – مصدرا للفتوح مع قلوب الناس الذين كانوا يتحلقون من حوله، وكأنهم فى حضرة صوفية لا بروفة لتسجيل لحن أو مقدمة مسلسل إذاعي، أو حتى أوبريت ينبض بحيوية الحياة المصرية مثل «الليلة الكبيرة» ، وهو ما انعكس فى حنو بالغ على أهله من أصحاب حرفة الفن التى أدركته فى سن مبكرة.
حافظ التراث
الثابت أن الشيخ سيد ما أن تماثل لسن الشباب حتى انطلق ينهل من تراث الانشاد الدينى من خلال متابعته لكبار المقرئين والمنشدين آنذاك كالشيخ «إسماعيل سكر والشيخ مصطفى عبد الرحيم» وهذا ماجعله يتمتع بذاكرة موسيقية جبارة تقوى على صياغة مغايرة للحن فى تجلياته العذبة، فما أن كان يستمع للدور أو الموشح لمرة واحدة فقط فسرعان ما ينطبع فى ذاكرته، ولإدراك أهله بموهبته كانت والدته تشترى له الاسطوانات القديمة من بائعى «الروبابيكيا» بالحى بثمن رخيص ليقوم بسماعها إرواء لتعطشه الدائم لسماع الموسيقى الشرقية.
كما أن تعرفه فيما بعد على أول صديقين فى تاريخه الفنى وهما الشقيقان إسماعيل رأفت ومحمود رأفت، وكانا من أبناء الاثرياء ومن هواة الموسيقى وكان أحدهما يعزف على آلة القانون والثانى على آلة الكمان، وكان لديهما فى المنزل آلاف الاسطوانات القديمة والحديثة آنذاك من تراث الموسيقى الشرقية لملحنى العصر، أمثال «داود حسني ومحمد عثمان وعبد الحى حلميٍ والشيخ درويش الحريري وكامل الخلعي»، وظل سيد مكاوى وصديقاه يسمعون يوميا عشرات الاسطوانات من أدوار وموشحات وطقاطيق ويحفظونها عن ظهر قلب ويقومون بغنائها.
لقد ولد كل هذا لدى الشيخ حب التعاون والإيثار فقد اعتبر نفسه محظوظا بأصدقائه ، ومن ثم يكون بارا بالآخرين، وهنا يستطرد الخولى بعذب كلامه قائلا: لقد كان يؤثر على نفسه تقديم الآخرين من أبناء مهنته دون جزع أوكبرياء - على قدر قامته الكبيرة – رغم ما يملك من موهبة فطرية تطاول السحب، وتقدر على أن تضعه فى مصاف أساطين الغناء الفردي، لكن شعورا جمعيا كان يهديه إلى جمال الصنعة فى التعدد والتنوع ، وليس التفرد والأنانية.
ومع بواكير إبداعه الموسيقي، كون سيد مكاوى مع «الأخوين رأفت» ما يشبه التخت لإحياء حفلات الأصدقاء، وكان حفظ سيد مكاوى لأغانى التراث الشرقى عاملا أساسيا فى تكوين شخصيته الفنية، واستمد منها مادة خصبة أفادته فى مستقبله الموسيقي.
كان حفظه تراث الإنشاد الدينى والتواشيح عاملا أساسيا فى تفوقه الملحوظ فى صياغة الألحان الدينية، والقوالب الموسيقية القديمة مثل تلحينه الموشحات التى صاغها من ألحانه، على حد قول الموسيقار الكبير «منير الوسيمي» الذى تولى دفة الحوار بحديث حماسى كأنما تصاحبه أوركسترا كاملة ، وبعصا سحرية يوضح لنا جبروت اللحن المكاوى والأداء البطولى الطامح نحو عوالم شعبية فريدة تجعل من سيد مكاوى «فنان الشعب» باقتدار ، وليس امتداد طبيعيا لسيد درويش فحسب ، بل إنه على جناح التجديد يصل بك إلى الحد الذى تشتم فى ألحانه رائحة طين الأرض بخضرها وفاكهتها وتشعر بصهد وحرارة مواسم الزرع والقلع والحصاد ، إنها رائحة الحياة المصرية الفطرية النابعة من النهر الخالد «النيل» فى جريانه عبر آلاف السنين، إنه حفيد الفراعين صناع الحضارة والمجد متكئين على فنونهم التى لاتزال تذهل مشاهديها.
ولأن الوسيمى أحد أهم رواد الموسيقى الفرعونية، فقد فسر لنا كيف ارتبطت موسيقى سيد مكاوى بالزرع والضرع ومواسم الجنى والحصاد التى تجلت فى حالة من الانسجام بين الآلات لصناعة نوع من «الهارموني»، وكأنها موسيقى من لحم ودم تشعر معها بدفء الحياة فى رونقها وبريقها الآخاذ، حين يسيطر اللون الأخضر على مجمل ألوان لوحة الرخاء المصري، وكذا ببرودتها وجفائها فى لحظات الانكسار والهزيمة، هكذا برع «أبو السيد» -أحب الأسماء للراحل العظيم - كما كان يناديه الوسيمى وغيره ممن عاصروه.
يحكى منير الوسيمى ملمحا من فراسة ومرح «عم سيد» التى تعكس ذكاء نادرا إلى الحد الذى كان يعرف من هو محدثه من نبرات صوته عبر آلة بداخله تحلل الصوت وتحفظه، وعندما يحدثه فيما بعد على الفور يجلب بصمة ذلك الصوت فى أذنه بسرعة الريح فلايخطئ محدثه أبدا، ومن فرط نباهته كان يصف الملامح الجسمانية لمحدثه للمحيطين حوله بشكل تفصيلى فقط من نبرة الصوت، وكأنه يرسم «بورتريه» له عن قرب بريشة من إحساسه الدفين.
ويدلل الوسيمى على تلك الفراسة بموقف لكاتب أغان متواضع حدثه بعض أصدقائه عن طيبة قلب «عم سيد» فقرر أن ينتظره على باب مكتبه ويضع بعضا من أغانيه فى يده، وعندما قرئت عليه كلمات هذا الرجل صمت ولم يعلق، ولكنه حولها فيما بعد إلى موقف فكاهي، عندما التقاه مرة ثانية على باب الإذاعة فسأله كاتب الأغانى عن رأيه فيما كتب، فقال له عن أى كلمات تتحدث، فرد عليه الرجل قائلا: يبدو أنك نسيت ياشيخ سيد، على أى حال هذه نسخة ثانية، فجذبها الشيخ من يده ، ونظر فيها كأنما يتفحص كلماتها، والتف إليه قائلا : «وحشة»، عندئذ انفجر الحضور بالضحك من بلاغة رد الشيخ الكفيف.
مصرية خالصة
ويسرى حديث الحاضرين فى ليلة سيد مكاوى متلازما مع موج النيل الذى يجاورنا بعذوبة ويسر، ويقود قلاع مركب الكلام الدكتور صلاح فضل قائلا : كان سيد مكاوى فى بدايته مهتما أكثر بالغناء، ويسعى لأن يكون مطربا وتقدم بالفعل للإذاعة المصرية فى بداية الخمسينات وتم اعتماده كمطرب بالإذاعة، وكان يقوم بغناء أغانى تراث الموسيقى الشرقية من أدوار وموشحات على الهواء مباشرة فى مواعيد شهرية ثابتة، ونحن كجيل عاصر تلك الأجواء كنا نستشعر جلاء موهبته فى ظل وجود أساطين الغناء والموسيقى فى عصره، لكنه لم يكن لونا مغايرا فحسب، بل كان مدرسة لحنية وغنائية لافتة إلى الحد الذى يدفعك لاستعذاب ما ينتجه من موسيقى لمجرد سماعها مرة واحدة.
والأمر اللافت فى مسيرة «مكاوي» أنه كان مصريا حتى النخاع، ولم يغن فقط للبيئة الشعبية التى ولد وترعرع فى كنفها، بل قدم حتى فى «الليلة الكبيرة» صورا وأخيلة موسيقية استطاعت أن تنقل نبض وإحساس كلمات «صلاح جاهين» بتكنيك فريد يبعث على الوعى بالمجتمع والناس، من القرى والبنادر، وكأنهما كانا نذيرى بهجة خاصة للمصريين، فهذا الثنائى نادر التكرار، صاغا أحلام المصريين بعبقرية، وفى لوحة غنية بالألوان والرموز والطقوس المصرية الخالصة فى الموالد وفى قلب الشوادر تستشعر فرحا غامرا، وتستعذب الزحام المخلوط بروائح البخور والعنبر، وتحس بالفتوة ونبل الرجال وجمال بنات الريف والحضر فى ملابسهن المبهرجة حافلة بالنقوش والألوان.
مسحراتى القرن
معروف أن الإذاعة المصرية دأبت كثيرا خلال شهر رمضان على تقديم حلقات «المسحراتي» ، صحيح أنها كانت تعهد لأكثر من ملحن لتقديم هذه الحلقات، ومن الملحنين الذين سبق وأن شاركوا فى تلحين المسحراتى «أحمد صدقى ومرسى الحريرى وعبد العظيم عبد الحق» وكانوا يقدمونها على فرقة موسيقية، لكن فى العام الذى أسندت الإذاعة لسيد مكاوى تلحين عدد من حلقات المسحراتى اشترط أن يقوم هو بغنائها، وكم كانت دهشة المسئولين بالإذاعة حين قرر الملحن سيد مكاوى الاستغناء نهائيا عن الفرقة الموسيقية، وتقديم المسحراتى بالطبلة المميزة لتلك الشخصية وقدم ثلاث حلقات فقط مشاركة مع باقى الملحنين، وفور إذاعة الحلقات الثلاث بأسلوب سيد مكاوى حققت نجاحا منقطع النظير، مما حدا بالإذاعة فى العام الذى يليه إلى الاستغناء عن كل الملحنين المشاركين فى ألحان المسحراتي، وإسناد العمل كاملا لسيد مكاوي، حتى صار مسحراتى القرن العشرين بامتياز.
ولقد ساعده فى ذلك تعاونه فى تقديم المسحراتى مع الشاعر العبقري فؤاد حداد الذى صاغها شعرا، وظل يقدم المسحراتى بنفس الأسلوب حتى وفاته، وهو أسلوب على بساطته الشديدة يعتبر بصمة فنية هامة فى الكلمات، ومحطة من المحطات اللحنية المتفردة فى التراث الموسيقى الشرقي.
دفة الحوار فى ليلة مكاوى الحكائية الغنائية تصل إلى الشاعر المبدع «جمال بخيت» الذى عبر بوعى شديد فى قصيدته الشهيرة عن «سيد مكاوى وفؤاد حداد» متحدثا عن نموذج من نداءات التسحير التى كان يطلقها الفنان الكبير الراحل سيد مكاوي، والذى يعد إحدى علامات التلحين والغناء فى عالمنا العربي، وكيف يعتبر أشهر «مسحراتي» فى عصرنا الحديث، حيث كان بطبلته وصوته الشجى يجول فى أرجاء القاهرة القديمة التى ملأها أنغاماً ندية مفرحة، أدخلت البهجة والسرور إلى قلوب ناسه وأهله من الغلابة الذين يجتمعون فى الساحات الممتدة أمام الجوامع والمشربيات والشرفات للاستمتاع بصوته الشجي.
وذهب «بخيت» إلى قصته مع الراحل العظيم «عمار الشريعي» عندما ذهب إليه ليخبره بطلب الإذاعة عمل المسحراتى من كلماته وألحان «عمار» فكان رده : «تقريبا أنته اتجننت ياجمال» ، كيف لنا أن نطاول هذا الهرم الموسيقى المصري، وماذا يمكن أن نقدم من جديد للمسحراتى التى ارتبطت فى الوجدان الشعبى المصرى باثنين من علامات عصر التنوير»مكاوى وحداد»، إنها مخاطرة غير محسوبة، ويصعب الإقبال عليها رغم مرور تلك السنوات على رحيل «عم سيد».
فى الواقع، كنت أخشى أن تحدث مقارنة، ولو بسيطة بين العملين، وكنت أخشى أيضا، وبنسبة أكبر، أن أكون متأثرا، حتى فى اللاوعي، بما فعل فؤاد حداد. غير أن ما حسم الموضوع بداخلى لصالح البدء بالكتابة هو أن جيلنا قد عاش أحداثا لم يعشها فؤاد حداد، مثل اجتياح دولة عربية لدولة أخرى عربية، أو احتلال العراق، وهى أحداث كبرى نعيشها، وبالتالى يحق لجيلنا أن تكون له كلمة فيما يعيش من أوضاع.
والتقط المفكر الدكتور مصطفى الفقى خيط الكلام ، وبحسه السياسى الرفيع ولياقته الدبلوماسية الفريدة يدخل بنا فى حديث مكثف حول أغنية «الأرض بتتكلم عربي» والتى يراها واحدة من التابلوهات الفنية الراقية فى الموسيقى العربية التى استطاعت أن توحد كيان الأمة، ويعزف الشيخ سيد بعوده على مشاعر الإخاء قبل حروف اللغة، ليؤلف بحنو بالغ بين القلوب ويجعل الأرض تنطق حروف العربية بطلاقة غير معهودة لم يسبقه أحد قبله فى تراثنا العربي، وبطيبة ونقاء سريرة تشعر مع غناء «مكاوي» بالأبوة والأخوة من خلال هذه الأغنية التى تردد صداها فى كل عواصمنا العربية، ومازال أثرها بالغا فينا، غير روائعه الأخرى التى ستبقى خالدة فى ذاكرتنا وعلى مر الأجيال من خلالها أن الحس الشعبى يظل غالبا رغم تقلب الأيام والسنين، ومقاوما لانبعاث التلوث القادم من ألوان الموسيقى الصاخبة والضجيج الذى يغلف أيامنا الحالية.
وعلى أثر الحديث حول «الأرض بتتكلم عربي» باعتبارها نموذجا للأغنية التى وحدت الأمة تنطلق السفيرة «إيناس مكاوي» ابنة الراحل العظيم، و بحكم عملها فى الجامعة العربية تبدى نوعا من التأثر الشديد بتلك الأغنية ، وتشرح الظروف والملابسات والمفارقات التى صاحبتها فى رحلاتها الدبلوماسية فى عالمنا العربية، وأضافت قائلة : تحدثتم جميعا عن تأثير أغنيات وأوبريتات سيد مكاوي، وباستفاضة خاصة عن «الليلة الكبيرة» وغيرها من أوبريتات عظيمة، لكنى أعتبر أوبريت «حمار شهاب الدين» هو الأروع من بين أعمال أبي، لأن شهاب الدين كان يطوف بحماره على المدن العربية ، ومن ثم يصبح هذا العمل عربيا بامتياز، خاصة أنه يتعرض للمظالم والفقر والعوز الذى جانبه الصواب فى وصفه والتعبير عنه بواقعية كما قدمه مسرح العرائس.
وتضيف «السفيرة مكاوي»: لابد أن نفخر بسيد مكاوى الذى كان له الفضل فى إقناع المسئولين بالإذاعة بضرورة تطوير شكل المسلسلات الإذاعية بعمل مقدمات غنائية لهذه المسلسلات، فكان له الفضل الأول فى وضع هذه القاعدة، وقدم من خلالها عشرات المقدمات الغنائية لمسلسلات شهيرة للفنان أمين الهنيدي ومحمد رضا وصفاء أبو السعود مثل «مسلسل شنطة حمزة ورضا بوند وعمارة شطارة وحكايات حارتنا» وغيرها الكثير. وقد راعى سيد مكاوى فى تلحين هذه المقدمات أن يكون الغناء بشكل كوميدي، ويتمتع بخفة ظل، حيث كان هو شخصيا خفيف الظل ومن ظرفاء عصره وقد كانت هذه المقدمات من تأليف صديقيه الشاعرين عصمت الحبروك وعبد الرحمن شوقي.
وهنا أتدخل من جانبى لتوضيح حقيقة وملمح مهم فى هذا الصدد : فلعل جهد «مكاوي» هذا قد انعكس على كافة الدراما التليفزيونية فى ضرورة أن يكون «التتر» لازمة مهمة جدا ومصحوبة بغناء معبر، كما جاء فى مسلسلات عديدة برع فى أدائها «على الحجار ومحمد الحلو، بكلمات سيد حجاب والأبنودى وألحان عمار الشريعى وغيرهم»، حتى أن الموسيقية التصويرية لأفلام السينما قد تأثرت بهذه اللون المكاوى الشرقي، فاستعان بها المخرجون بعد أن دأبوا طويلا على استخدام الموسيقى التصويرية الغربية عبر شريط السينما.
ويبدو أن كلامى قد أثار الفنانة التشكيلية السيدة «زينات مكاوي» قرينة الشيخ سيد ورفيقة دربه، حين تنهدت تنهيدة طويلة وأمسكت بالمايك وعيناها تلمعان بدموع الفرح والبهجة، لتؤكد على كلامى عن تحيز الشيخ سيد للغناء الجماعي، قائلة : نعم كان له الفضل فى وضع أساس لتقديم الأغانى الجماعية بالإذاعة، حيث كان أول من لحن أغانى المجاميع، وكان معروفا أن كل ملحن يسعى لتقديم لحنه لأحد الأصوات الشهيرة الموجودة تحقيقا للشهرة والذيوع، ولكن سيد مكاوى وجد أن نصوص تلك الأغانى لا تحتاج لأصوات فردية فضحى بالشهرة فى مقتبل عمره فى سبيل تقديم اللون الغنائى الذى يراه مناسبا، فقدم للشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل أغنية جماعية هى (آمين آمين يا رب الناس) وكذلك أغنية (وزة بركات) وللشاعر القدير فؤاد قاعود أغنية (عمال ولادنا والجدود عمال) والأغنية الشهيرة «زرع الشراقي».
وتصف السيدة «زينات» يوم أن ذهبت لترسم له بورتوريه ووقعت فى هواه من فرط وداعته وطيبته الكبيرة، قائلة : كان لدى مكاوى اهتمام شديد بقضايا مصر وكذلك القضايا القومية للوطن العربى وشارك فى الكثير من المناسبات القومية الهامة، ففى أثناء عدوان 1956 على بور سعيد قدم سيد مكاوى أغنية جماعية كانت من عيون أغانى المعركة وهى أغنية «ح نحارب ح نحارب / كل الناس ح تحارب»، وفي حرب 1967 قدم عقب قصف مدرسة بحر البقر أغنية (الدرس انتهى لموا الكراريس) للفنانة «شادية «وعقب قصف مصنع أبوزعبل قدم أغنية جماعية هى (إحنا العمال إلى اتقتلوا) والأغنيتان للشاعر العظيم صلاح جاهين، كما اشترك فى بداية الستينات فى الحفل الكبير الذى أقيم بأسوان احتفالا بالبدء فى بناء السد العالي وتحويل مجرى النيل ، وحضر الحفل الزعيم جمال عبد الناصر ورئيس الاتحاد السوفيتي» نيكيتا خروشوف» والرئيس السورى «شكرى القوتلي» وكذلك نخبة من رواد الفضاء الروس ومعهم الرائدة الشهيرة «فالنتينا»، حيث غنى سيد مكاوى أغنية ترحيب بأول رائدة فضائية من كلمات صلاح جاهين وهى أغنية (فانتينا..فالنتينا..أهلا بيكى نورتينا) كما قدم للشاعر فؤاد حداد (مصر مصر دايما مصر) وأغنية (مافيش فى قلبى ولا عينيه إلا فلسطين) وأثناء حرب السويس قدم لصديقه كمال عمار ( بلدنا الفجر مادنة ونار بنادق).
وفى رحلة الغوص فى موسيقى وغناء الشيخ سيد النهاية يشير الأكاديمى والمطرب د. محمد شبانة إلى عبقرية «مكاوي» الموسيقية والذى شبهه بطائرا موسيقى فذ فى التحليق باللحن الشرقى بجناحى «سيد درويش وزكريا أحمد»، لكنه كان الأكثر قدرة وارتجالا نابعا من حسه الشعبى الصادق ، ولعل حفظه للقرآن الذى خيم عليه بسكينة على نفسه التواقة إلى حب المولى عز وجل، فأنعم عليه ببهاء اللحن الذى يجذب الروح ويحلق بها فى سماء التجلى والإبداع، وأتوقف تحديدا عند (الأرض بتتكلم عربي) والتى قدمت بشكل ملحمى ملئ بالتراكيب اللحنية الشيقة والمعقدة والمركبة، ويعتبر مرجعا هاما لكافة الملحنين الجدد للاستفادة منه فى كيفية التسلسل اللحنى وحسن النقلات الغنائية، وكان يجب أن يعتبر مرجعا موسيقيا هاما بمكتبة المعاهد والكليات الموسيقية.
وأخيرا وليس آخرا ينبغى أن نذكر دائما جناحين على قدر كبير من الأهمية فى حياة مكاوى - صلاح جاهين وفؤاد حداد - لعبا دورا مهما فى تألقه الموسيقى والغناء التعبيرى الصادق، ومن ثم كانت محطته الأولى مع «جاهين» فى (الرباعيات) والتى قدمت من خلال إذاعة صوت العرب فى نهاية الستينات من إخراج أنور عبد العزيز، وكانت تقدم فى حلقات يومية وحققت شهرة واسعة، وشيوعا كبيرا مما حدا بالمطرب على الحجار إلى استئذان سيد مكاوى فى إعادة تقديمها وقد وافق سيد مكاوى وتم إعادة تسجيلها بصوت على الحجار.
أما المحطة الثانية مع «حداد» فكانت من خلال حلقات «نور الخيال وصنع الأجيال» وهو ديوان شعرى كامل للشاعر الكبير فؤاد حداد يصف فيها القاهرة العظيمة، وما مر بها من أحداث عبر التاريخ، حيث تم تقديمه من خلال إذاعة البرنامج العام خلال شهر رمضان عام 1968 من إخراج فتح الله الصفتي، وهذا البرنامج له المقدمة الغنائية الشهيرة (أول كلامى سلام) وقام بغنائه سيد مكاوى فى شكل الشاعر الراوى وقدم من خلال الثلاثين حلقة العديد من الأصوات الجديدة والمواهب الشابة آنذاك، والتى شاركته فى الغناء مثل «ليلى جمال وزينب يونس ووجنات فريد وعبد الحميد الشريف».
رحم الله الشيخ سيد مكاوي، بقدر ما أعطى لمصر من خلاصة إبداعه ومشاعره الوطنية التى ستظل سارية فى دماء المصريين على مر الأزمنة والعصور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.