للفساد تكلفة باهظة. وأولها تكلفة الفرصة الضائعة والسمعة. وللفرصة الضائعة تكلفة مالية كبيرة. وفى الآونة الاخيرة استرد الحديث عن تأثير الفساد على التنمية الاقتصادية عافيته من جديد. ولم يعد يكفى أن نشترى الهدوء على كل الجنبات ًوالجبهات بجهود المكافحة بمفردها رغم انها متقدمة اذا ما قورنت بمثيلاتها ما قبل 2014. وانما برزت أهمية فهم حجم وتأثير الفساد على التنمية الاقتصادية ومعالجته فى اطار «فكر إدارة المخاطر» ، لأن مثل هذه الطريقة تصب بشكل مباشر فى الوقاية من الفساد وتقليل تكلفته. وادارة المخاطر ليست هى ادارة الأزمة. فالمخاطر فى حد ذاتها ليست أمرا سيئا، لانها مهمة لتحقيق التقدم مثلما الفشل وسيلة للتعلم من الأخطاء. والاهم هنا هو تعلم كيفية احداث التوازن بين الآثار السلبية الممكنة للمخاطر والآثار الايجابية المتضمنة فى الفرص التى تحملها. والمخاطر هى أذى محتمل فى المستقبل يمكن ان يحدث بسبب سلوك حالى او سياسة حالية. وهذا الأذى تنجم عنه خسارة يمكن ان تترجم فى شكل خسارة مالية مباشرة او خسارة المصداقية أو خسارة فرص استثمارية مستقبلية او خسارة الملكية وتصل الى خسارة حياة الانسان نفسها. ومن ثم هناك أهمية للمعنيين بمكافحة الفساد والممارسين ان يحركوا بوصلة سياسات مكافحة الفساد فى اتجاه فكر ادارة المخاطر. وادارة المخاطر هى عملية وليست هدفا. فهى تنطوى على خطوات التعرف وادراك المخاطر وتعريفها بأنها مخاطر، و ازالة هذه المخاطر او تحويلها الى فرص قبل ان ترتد لنا فى شكل مخاطر. وأى عملية لادارة المخاطر تنقسم الى مرحلتين: المرحلة الاولى هى تقييم المخاطر والمرحلة الثانية هى السيطرة عليها. ويشتمل تقييم مخاطر الفساد على التعرف على مخاطره والتسليم بأنه يأكل من فرص التنمية ويقوض تكافؤ الفرص وينتهك حق الانسان فى حياة كريمة. وتحليل هذه المخاطر يشتمل على سبيل المثال دراسة تأثير دفع الرشاوى والعمولات على الانتقاص من دخل الفرد والحد من قدرته على الشراء والادخار، بالاضافة الى جذب الاستثمارات التى ليس لها قيمة مضافة للاقتصاد القومى انتاجا وتشغيلا لأننا لم نضع أولويات للمخاطر المحتملة للفساد ، وهى حلقة مهمة فى التعرف على مخاطره. واذا كانت أنظار دول العالم تتجه نحو التنافس فى جذب الاستثمارات اليها، فلا يكفى فقط تهيئة مناخ جيد للاستثمار من قبل الحكومة ( أى التركيز على جانب العرض)، وانما تبرز الحاجة الملحة الى تقييم الاستثمارات المتاحة ووضع أولويات لها بناء على خريطة المخاطر التى يأتى فى مقدمتها توافر المهارات البشرية والتدريب واجراءات تأمين العمالة بالاضافة الى المخاطر المرتبطة بنوع الانتاج وحجمه وتسعيره وتوزيعه والعمليات المرتبطة به ونوعية التكنولوجيا المستخدمة فيه، واحتمالات نفاذ ممارسات فاسدة اليه. وهنا تتقاطع عوامل التكلفة والعائد من عمليات ومشاريع بعينها مع المخاطر المحتملة لها وآثارها على المجتمع والاقتصاد وامكانات التعامل معها او رفضها. وعليه، فان قابلية أى سياسة او قانون او عملية انتاجية او استثمار لحدوث مخاطر تتطلب تحليل احتمالية وجود مخاطر ودرجتها والآثار المترتبة عليها وتكلفتها وكيفية التعامل معها. وسأورد مثلا يوضح اهمية تطبيق فكر ادارة المخاطر على الوقاية من الفساد والحد من آثاره السلبية على موضوع ادارة موارد الدولة التى تتداخل مع عدة قطاعات وعلى رأسها أراضى الدولة، حيث لاحظ المجتمع فى الآونة الاخيرة حجم المخالفات والتعديات على أراضى الدولة، وبصفة خاصة الاراضى الزراعية . وهى نتيجة ليست وليدة اليوم ولكن وليدة سياسة أساسها نبيل تمثل فى تحقيق المساواة فى الملكية وازالة الفجوات الطبقية متمثلة فى سياسة الاصلاح الزراعى بعد ثورة يوليو 1952 . ولكن جاءت خطوات تنفيذ هذه السياسة بعيدة عن فكر ادارة المخاطر، اذ اصبح من حق كل مالك لحيازة زراعية حرية التصرف فى أرضه بالزراعة او البناء او البيع دون تخطيط واضح للسياسة الزراعية ولا للعائد او التكلفة أو تحليل العلاقة بين حرية التصرف فى الملكية والعائد على الاقتصاد القومي، الأمر الذى أسفر عن اتخاذ كثير من الأفراد لخيارات أضرت بالاقتصاد الزراعى وبالكفاية الانتاجية وتحقيق الأمن الغذائي، فتلاقى ارتفاع سعر الفدان الأسود (القابل للزراعة) مع ارتفاع تكلفة البناء لينتج منظومة سلوكية قوامها القبول والتسامح مع البناء على الاراضى الزراعية لتحقيق أرباح سريعة وخلق مناخ يضغط على الدولة لاستصدار سياسات تتلاءم مع الامر الواقع على الارض والتعامل مع الاراضى التى تنتج لنا الغذاء باعتبارها أراضى مبان. وهى سياسة وضعتنا فى قلب مخاطر استيراد غذائنا ورفع تكلفة انتاجه اما لمحدودية الاراضى الزراعية او لارتفاع تكلفة استصلاح الفدان فى الاراضى الصحراوية. فكانت النتيجة ان انصرفت معظم جهود محاربة الفساد فى هذه الوقائع الى مكافحته بدلا من تحديد وتحليل مخاطره بهدف الوقاية منه او الحد من آثاره السلبية. ان وجود «خريطة مخاطر» فى مصر اصبحت ضرورة ملحة لتحرك مدروس فى اتجاه الوقاية من الفساد وتعظيم العائد الاجتماعى والاقتصادى من الموارد التى تزخر بها مصر فى قطاعات عديدة من جهة، وارسال رسالة للعالم بأننا نتعامل مع سياسات مكافحة الفساد بفكر يستند لمنهج علمى يحميه اطار قانونى واضح ومتكامل يعلى من المصلحة العليا للدولة ويحافظ على حق الانسان المصرى فى التنمية. لمزيد من مقالات د.غادة موسى