استقل صديق خان عمدة لندن الجديد الأتوبيس، ثم المترو للتوجه إلى عمله الجديد فى مبنى بلدية لندن "سيتى هول" بوسط العاصمة. فى الطريق من المنزل إلى محطة الأتوبيس كانت الأصوات ترتفع بالتهنئة: تهانينا. فيرد: شكرا سيدي... شكرا سيدتى سأله أحد الصحفيين: ما هى أكثر الهدايا التى وصلتك حتى الأن؟، فأجاب: "حلوى وزهور. لكن كفى فزوجتى لديها حساسية الربيع". عندما وصل إلى "سيتى هول" كانت رسائل التهنئة ما زالت تأتى إليه وآخرها من دونالد ترامب المرشح الجمهورى لانتخابات الرئاسة الأمريكية الذى أعلن أن خان سيكون "‘أستثناء" من رفض ترامب دخول أى مسلم لأمريكا، قائلا "أنا سعيد بانتخابه. ولن أطبق عليه الحظر!". فى مكاتب الطابق الثامن فى مبنى "سيتى هول"، المخصصة لعمدة لندن وفريقه المساعد كان على رأس أولويات خان تشكيل فريقه الجديد. ويحق لعمدة لندن تعيين اثنين من المستشارين السياسيين، و10 من النواب والمساعدين. ومن المؤكد أن يتم تعيين ديفيد بيلامي، رئيس الحملة الانتخابية لخان، فى منصب رئيس مكتب عمدة لندن. ويعتقد أن أحد مستشاريه السياسيين سيكون نيل كولمان، المستشار السابق لكل من بوريس جونسون وكين ليفينجستون وأحد أبرز الوجوه التى عملت فى ملف دورة الالعاب الاولميبية فى لندن. والذى عمل أيضا كمخطط سياسات رئيس حزب العمال الحالى جيرمى كوربن. والمتوقع أن يعين أيضا جيمس موراى النائب فى البرلمان وأحد عناصر حملته، والذى ساهم معه خلال الحملة فى توضيح كيفية معالجته لأزمة الاسكان فى لندن. أيضا من الشخصيات ثقيلة الوزن المرجح انضمامها لفريق خان، اندرو ادونيس، الوزير السابق ورئيس اللجنة الوطنية للبنية التحتية المسئول عن مشاريع تطوير خطوط القطارات فى بريطانيا. كما من المتوقع تعيين نيك باوز، الذى ينظر إليه على نطاق واسع بوصفه العقل وصاحب الأفكار فى حملة خان، فى منصب أحد مستشاريه السياسيين. وتعيين عضوى حملته ليا كريتزمان وجاك شتنير ضمن فريقه. وكذلك الصحفى باتريك هينيسي، مدير الاعلام فى حملته، والمرجح أن يعين فى منصب مدير الأعلام فى مكتبه. أمام مبنى ال "سيتى هول" وفيما كان هناك عدد من الناشطين المستقلين يتحدثون مع خان حول مطالبهم خاصة توفير الاسكان بأسعار تناسب الطبقات الوسطى والفقيرة، فيما آخرون يوزعون أنواعا من الفطائر الفرنسية الساخنة، قالت أحدى الناشطات:"انه رجل مجتهد وسيحاول العمل على حل هذه المشاكل. كما أنه سياسى برجماتى ووسطى وهذا سيساعده فى إدارة العلاقة فى حكومة المحافظين". فعمدة لندن وبرغم أنه ينتخب مباشرة من الشعب ولديه صلاحيات وسلطات كبيرة، إلا أن الميزانية تظل فى يد الحكومة البريطانية. وعلى خان أن يدير علاقة صعبة مع وزير الخزانة جورج اوزبورن (حزب المحافظين المنافس) من أجل تحقيق برنامجه الانتخابي. وستكون أولى القضايا التى ستختبر هذه العلاقة المعقدة، تعهد خان بعدم رفع أسعار المواصلات حتى عام 2020 مايعنى خسارة أكثر من مليار جنيه استرلينى من عوائد التذاكر فى ميزانية "مواصلات لندن"، كانت تستخدم عادة فى تطوير خطوط مواصلات موجودة أو بناء خطوط جديدة. وفى دلالة على أهمية هذا الوعد الأنتخابى بالنسبة لخان، كان من أوائل اللقاءات التى عقدها فى "سيتى هول" لقاء مع "رئيس مفوضية مواصلات لندن". دخل الرجل مبتسما وبعد ساعة خرج مبتسما قائلا للصحفيين: "إن المفوضية ملزمة بتطبيق المانفستو الانتخابى لخان ولن ترفع أسعار المواصلات حتى عام 2020". هذا أول انتصار لخان فى "سيتى هول". أول 48 ساعة من حياة خان كعمدة لندن لم تكن لتمر دون أن يلتقى خان بزعيم حزب العمال جيرمى كوربن الذى لم يقابله منذ انتخب ما أثار أسئلة حول خلافات متصاعدة بينهما حول خطاب حزب العمال السياسي. فبينما يريد كوربن التمسك بسياسات يسارية اجتماعية واضحة تنحاز للطبقات الوسطى والفقيرة، يريد خان سياسات تميل أكثر نحو الوسط، بحيث لا تنفر طبقة رجال الأعمال والمستثمرين. وفى انتقاد ضمنى لكوربن قال خان "كى يستطيع حزب العمال الفوز فى أى انتخابات يجب أن يكون خطابه جذابا لكل البريطانيين وليس فقط للناخب المنحاز للحزب. ليس هناك شيء أاسمه هزيمة مشرفة فى السياسة". التحدى أمام كوربن أن يستغل نجاح صديق خان فى عمدية لندن لرفع أسهم حزب العمال، ويبنى تيارا واسعا وسطيا داخل الحزب قادرا على جذب أصوات المزيد من الناخبين البريطانيين العاديين. وإذا فشل كوربن فى هذا فالبديل له سيكون واضحا وهو خان نفسه، الذى بات بعد انتخابه أقوى شخصية داخل حزب العمال، أقوى حتى من رئيسه. ولاشك أن وقوف العمدة الجديد أمام النافذة من مكتبه فى الدور الثامن فى "سيتى هول" حيث تقع عيناه على مبنى ضخم مكتوب عليه "10 دواننج ستريت" سيجعل خان ينظر للأمام ويفكر كيف يمكن الانتقال من هذا المبنى إلى هذا المبني. وهذا ليس أستباقا للأحداث، فالصحف البريطانية بدأت تكتب عن خان بالفعل كبديل قوى محتمل لكوربن على رأس حزب العمال. وإذا كنت رئيسا لحزب العمال، فإن لديك دائما فرصة كى تصبح رئيسا للوزراء. وهناك بالفعل ميول انقلابية ضد كوربن فى حزب العمال. لكن هل يدعمها خان؟ الاجابة هى نعم إذ لم يغير كوربن توجهات الحزب من أقصى اليسار لأرضية أكثر وسطية فإنه من المرجح أن يخسر موقعه قبل الانتخابات العامة المقبلة المقررة 2020. فهناك جانب برجماتى وبارد فى شخصية خان ظهر مع أزمة تصريحات عمدة لندن الأسبق كين لينفيستجون حول النازية والصهيونية. فخان انقلب سريعا على زميله فى الحزب وأحد المقربين منه جدا كى لا يهدد فرصه فى الفوز بعمدية لندن. وهذا الجانب البرجماتى الحذق يرجعه خان إلى طفولته. فقد عاش ودرس فى منطقة ينتشر فيها العنف والفقر. وبحسب ما يقول:"لقد كانت مدرسة صعبة. لم يكن الطريق مفروشا بالورد. لكنك تتعلم خبرات تمكنك من التصرف والتعامل مع الصعوبات والمخاطر. تصبح أكثر دهاء وتتعلم مهارات اجتماعية وتتعلم كيف تتعامل مع الناس". الطفولة الصعبة دفعت خان للسياسة بطريقة أو بأخرى وهو يتذكر أنه وهو طفل كان مشغولا بقضايا مثل حقوق العمال والتنظيم النقابى لأن والده، سائق الأتوبيسات كان يتحدث عن هذه القضايا. كان خان واحدا من بين ثمانية أبناء لهذا المهاجر الباكستانى وزوجته الخياطة التى تعمل من المنزل، حيث كانوا يعيشون فى مسكن وفرته لهم البلدية جنوب العاصمة لندن. وتمثل قصة والدى خان أهمية بالنسبة له، حيث هاجر أمان الله وسهرون خان من باكستان إلى لندن عام 1970، وذلك قبل وقت قصير من ولادة ابنهما صديق. وكان ترتيب صديق الخامس بين ثمانية أشقاء هم سبعة أولاد وبنت واحدة. وعاش مع والديه وإخوته فى مسكن ضيق يحوى ثلاث غرف للنوم، فى ضاحية إيرلسفيلد جنوب غربى لندن، وشارك صديق أحد إخوته الذكور فى سرير من طابقين، إلى أن غادر المنزل فى العشرينيات من العمر. ثم التحق فى مرحلة دراسته الثانوية بمدرسة "إيرنست بيفن كوليدج" التى يصفها بأنها كانت مدرسة قاسية، واشتهرت بسوء سلوك طلابها وجميعهم من الذكور. وخلال هذه المرحلة بدأ انجذاب خان نحو السياسة، وانضم إلى حزب العمال حينما كان عمره 15 عاما. وتربى خان على القيم الإسلامية، ولم يتنصل يوما من الإعلان عن أهمية عقيدته، وفى أول خطاب له كعضو بالبرلمان تحدث عن كيف أن أباه علمه الحديث النبوى الشريف، عن أن الشخص الذى يجد شيئا خطأ عليه أن يعمل على تغييره. وكان من هوايات خان فى مرحلة شبابه لعب كرة القدم والملاكمة والكريكت، وهو من مشجعى فريق ليفربول الإنجليزى لكرة القدم. ودرس خان الرياضيات والعلوم بهدف أن يصبح طبيبا للأسنان، لكنه انتقل لدراسة القانون، بعدما لفت معلمه انتباهه قائلا: "أنت دائما تناقش وتحاجج". ثم درس القانون فى "جامعة نورث لندن" وتخرج فيها، وأصبح محاميا متدربا فى قضايا حقوق الإنسان عند أحد مكاتب المحاماة عام 1994. وخلال العام ذاته التقى وتزوج من زميلته "سعدية أحمد"، وكانت بالمصادفة ابنة لسائق حافلة، وأنجبا ابنتيهما أنيسة وأماراه. فى عام 2004 ترك العمل بالمحاماة فجأة، بعد أن تولى منصب المدقق فى عمل شرطة العاصمة لندن. وفى عام 2005 أصبح خان عضوا فى مجلس العموم البريطانى عن حزب العمال ممثلا لمنطقة "توتينج"، وكان من بين خمسة نواب ينتمون لأقليات عرقية انتخبوا ذلك العام. وبعد تولى جوردون براون منصب رئاسة الوزارء عام 2007، تولى خان منصب مستشار الحكومة فى البرلمان ثم وزير دولة لشئون المجتمعات. وفى عام 2009 تولى منصب وزير النقل والمواصلات، وأصبح أول مسلم ينضم لمجلس الوزراء. وتولى خان قيادة حملة إيد مليباند الناجحة، للفوز بزعامة حزب العمال فى عام 2010. كما كان على رأس الفريق الذى دعم تولى كوربن زعامة حزب العمال خلفا لمليباند ونجح أيضا. هذا السياسى المفوه، الذى يتميز بقوة خطابه وطلاقة لسانه، الحاذق الطموح البرجماتي، زوجا وأبا عاديا. فهو كمايقول عندما يعود للمنزل ، يقوم بوضع القمامة خارج المنزل، وفى الصباح، يجهز أبنتيه للذهاب للمدرسة، ويتوجه من بيته سيرا على الأقدام إلى محطة الأتوبيس، ثم يأخذ المترو لمكتبه الجديد. وكما تقول سارة جوزيف، أحد مسئولى حملته الانتخابية ل"الأهرام":"خان سيثبت أنه عمدة لكل اللندنيين. فهو يعرف مشاكل لندن لأنها المشاكل اليومية التى يمر بها كأحد سكان هذه المدينة. وستكون المدينة هى شغله الشاغل". وصف خان عمدة لندن السابق بوريس جونسون ب"عمدة السجاد الأحمر". خان بالتأكيد لن يكون هكذا. فأمام "سيتى هول" كان العشرات ما زالوا متجمعين بين مؤيدون وناشطين وصحفيين، يتابعون كيف يدير خان شئونه فى الأيام الأولى لمنصبه الجديد. هناك لا شك أحساس كبير بالتفاؤل والسعادة والفخر أن لندن انتخبت أول عمدة مسلم فى تاريخها. وكما قالت احدى المؤيدات له أمام "سيتى هول" بابتسامة عريضه على وجهها "انها قصة حالمة مثل قصة فوز فريق ليستر بالدورى الانجليزي".