مات العالم الأمريكى توماس كُون فى عام 1966 وهو مشهور بكتابه المعنون «بنية الثورات العلمية» إلى الحد الذى أصبح فيه حياً فى القرن الحادى والعشرين. ومن هنا صدر كتاب عنه ولكن من تأليفه فى عام 2002، وعنوانه «الطريق منذ البنية» والمقصود به رحلته العلمية التى أوصلته إلى تأليف كتابه الذى أصدره فى عام 1962. والكتاب عبارة عن أبحاث من تأليفه ومقسمة إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى تبين تطور فكره منذ عام 1980 إلى عام 1990. والمجموعة الثانية تنطوى على ردوده على انتقادات معارضيه من الفلاسفة. والمجموعة الثالثة عبارة عن حوار معه يشير إلى رحلة حياته ويحكى فيها كيف تربى وكيف تعلم. والموجز أنه تعلم كيف يكون تفكيره مستقلاً. أما مستقبله العلمى فقد تحدد فى اتجاه الفيزياء النظرية وليس الفيزياء العملية فالتحق بجامعة هارفارد وحضر دروساً فى الفلسفة وأُعجب بفكر الفيلسوف الألمانى العظيم كانط إلى الحد الذى قال عنه إن فكره كان بمثابة الإلهام. وسبب ذلك مردود إلى أن كانط قد فطن إلى فاعلية العقل الإنسانى فى تكوين القانون العلمي، بمعنى أن هذا القانون هو من صنع طرفين: العقل الإنسانى والعالم الخارجي، ومن ثم تكون المعرفة العلمية نسبية. ومن هنا يقول كُون إن الغاية من حضوره الدروس الفلسفية العثور على جواب عن سؤال: ما الحقيقة؟ ولكنه لم يعثر على الجواب لا فى الفلسفة ولا فى الفيزياء، وعندئذ فكر فى دراسة تاريخ العلم، إلا أن جامعة هارفارد كانت خالية من قسم بهذا الاسم. ولكن كانت قد نشأت «جماعة سارتون». وهنا ثمة سؤال لابد أن يثار: لماذا كان كُون مهموماً بدراسة تاريخ العلم؟ لكى يعرف مسألتين: المسألة الأولى خاصة بما إذا كان العلم يتقدم بالتراكم أم بغيره. وقد انتهى إلى أن العلم لا يتقدم قى مساره بالتراكم إنما بالتغيرات التى تحدثها الثورات العلمية على أن يؤخذ فى الاعتبار أن هذه الثورات هى ثورات اجتماعية تنشد الاقتراب من الواقع المضطرب والمتأزم والذى يفضى بدوره إلى تغيرات جذرية ومن ثم إلى تخصيب الممارسات العلمية. ولا أدل على ذلك من أن كتاب كُون المعنون «بنية الثورات العلمية» قد أصبح مؤثراً فى ثورة الطلاب فى أوروبا وأمريكا فى عام 1968، إذ قيل، فى حينها، إنه مفجر الثورة. أما المسألة الثانية فهى مترتبة على المسألة الأولى وموجزها أن كًون كان مهموماً بالكشف عن البُعد الاجتماعى للفلسفة. ومن هنا كان اهتمامه منصباً على البحث عن العوامل الداخلية الكامنة فى نشأة النظرية العلمية، وعن العوامل الخارجية التى تتدخل فى تكوينها. ومن هنا ثانياً اكتشف أن العلاقة عضوية بين البنية والنظريات العلمية بحيث إذا تغيرت النظريات تغيرت البنية أيضا. ولكن اللافت للانتباه أن همه بدراسة تاريخ العلم لم يكن وارداً فى كتابه المعنون «تاريخ العلم» إذ كان، فى حينها، مهموماً بالكشف فقط عن العوامل الداخلية فى نشأة النظرية العلمية. أما فى مقاله المعنون «تاريخ العلم» والذى نشره فى «موسوعة العلوم الاجتماعية» فقد كان اهتمامه منصباً على العوامل الداخلية والخارجية. ومن هنا كان تأليفه كتاب «البنية والثورات العلمية». إلا أنه لم يقبل فكرة أن العلم فى حالة ثورة دائمة لأن القول بالثورة الدائمة تناقض فى الحدود على حد تعبير المناطقة. ومن هنا ثانياً نشأت لدى كُون فكرة «العلم السوي» الذى يهتم بحل الألغاز، أى حل المعضلات. وإذا لم يكن الحل ممكناً فهذا يعنى أننا على مشارف تكوين بارادايم جديد، أى نموذج جديد، أى أننا على مشارف ثورة علمية. ومن هنا ثالثاً تأثر نفر من الفلاسفة بالفلسفة التاريخية للعلم، ومن ثم اتجهوا نحو التاريخ للبرهنة على صحة النظرية العلمية. ولا أدل على هذا الاتجاه من أن كُون قد انتخب رئيساً ل «جمعية فلسفة العلم». ومع ذلك فإن هؤلاء العلماء لم يتساءلوا عن العلم ومفهوم الحقيقة، إذ انخرطوا فى الحديث عما هو صواب وعما هو خطأ دون أن يلتفتوا إلى ما حدث فى التاريخ فى شأن ذلك المفهوم. وإذا قيل بعد ذلك إن لدينا باحثين فى «تاريخ الفلسفة» فإن هؤلاء لم يتعاملوا مع التاريخ إنما تعاملوا مع الفلسفة بمعزل عن التاريخ، ومن ثم لم يكن لديهم أى مبرر لتغيير البارادايمات. والسؤال بعد ذلك: إذا كان كتاب «البنية والثورات العلمية» من دوافع ثورة الطلاب، وإذا كانت هذه الثورة قد طالبت بتغيير النظم السياسية القائمة فمعنى ذلك أن السياسة وليس الاجتماع هى التى تكون على علاقة عضوية بالثورات بوجه عام والثورات العلمية بوجه خاص. ولا أدل على ذلك من اعتبار التنوير من جذور الثورة الفرنسية والأمريكية. ولا أدل على ذلك أيضاً من أن انتكاسات ثورات الربيع العربى فى عام 2011 مردودة، فى رأيي، إلى خلوها من ثورات علمية أو فلسفية. السياسة إذن هى البُعد الكامن فى الثورة أيا كانت سمتها. ومن هنا كان تأسيسى ل العلم الثلاثي: الفيزياء والسياسة والفلسفة فى عام 1980. لمزيد من مقالات مراد وهبة