مع العالم الدكتور جلين درانوف مدير قطاع العلاج المناعى للأورام، بمعهد الأبحاث البيولوجية بكامبريدج، والذى يهتم مع فريقه بتطويع الجهاز المناعى لمكافحة السرطان من خلال عدة طرق بكامبريدج حيث يبحث الفريق عن سبل لتدريب جهاز المناعة حتى يصبح قادرًا على التعرف على الورم وتمييزه ثم إطلاق الخلايا المناعية لمكافحته.. كان هذا الحوار: ...دكتور جلين سمعنا عن العلاج المناعى كوسيلة لمحاربة مرض السرطان ونعتقد أنه سيُحدث ثورة علمية جديدة. فهل يمكننا التعرف على آلية العلاج وطريقة عملها؟ يمكن إدراك فكرة العلاج المناعى للسرطان من خلال التفكير فيما يحدث عندما تصيبك عدوى مثل الأنفلونزا، إذ تعلم أن الأنفلونزا تصيبك عندما يدخل فيروس ما إلى رئتيك وينجح فى النمو داخل الرئتين وإتلاف جزء من بطانة الرئة. وهكذا يتضح أن إحدى وظائف جهاز المناعة فى جسم الإنسان هى القدرة على توجيه استجابة والسيطرة على فيروس الأنفلونزا، ومن ثم، مع فهم المزيد من الحقائق حول كيفية تحكم جهاز المناعة بفيروس الأنفلونزا، استطاع العلماء استخلاص الكثير من المعلومات بشأن الأداء الطبيعى للاستجابات المناعية. ويتبين أن الأداء الطبيعى للاستجابات المناعية يشمل جوانب متعددة ومختلفة، ولكن لتبسيط الأمر، يمكننا شرحه فى ثلاث خطوات فقط. إذ يوجد أولاً ذلك الجزء من الجهاز المناعى الذى يستطيع اكتشاف ما إذا كانت هناك عدوى بفيروس الأنفلونزا فى الرئة، وتحتوى جميع الأنسجة تقريباً فى مختلف أنحاء الجسم على جزء من الجهاز المناعي، ونطلق على جزء محدد اسم الحارس الذى يراقب الجسم تحسباً لحدوث أى مشكلة. فإذا أصيب الجسم بفيروس الأنفلونزا، يعمل هذا الجزء بمثابة جهاز الإنذار، وهذه هى الخطوة الأولى فى كيفية إبادة جهاز المناعة فى نهاية المطاف الأنفلونزا. وفور عمل جهاز الإنذار، يعمل الجهاز المناعى على تنشيط عدد أكبر من أجزائه كى يتمكن من إصدار استجابة قوية. ويتضح أن الجهاز المناعى يقوم بذلك عندما يتحرك جهاز الإنذار الموجود فى أنسجة الجسم ويذهب إلى الغدد الليمفاوية العمودية. فعندما يصيبك التهاب الحلق على سبيل المثال، تشعر أن الغدد تصبح متضخمة وأكثر حساسية، وما يحدث فى الواقع هو أن الجهاز المناعى يتلقى إنذاراً بأن هناك مشكلة. وفى حالتى التهاب الحلق والأنفلونزا على حد سواء، تبدأ الغدد الليمفاوية تتمدد بسبب تنشيط الخلايا المناعية فى الحلق أو الرئة وتصبح تلك الخلايا قادرة بعد تنشيطها على مغادرة الغدد الليمفاوية المتضخمة والتنقل عبر مجرى الدم حتى تصل إلى الأماكن التى تواجه المشكلة. وتعود فى حالة فيروس الأنفلونزا إلى الرئة ويصبح لديك جيش كامل من الخلايا المناعية على دراية بأن فيروساً قد أصاب الجسم وتعلم جيداً ما ستفعله الأنفلونزا فى الجسم ومن ثم تعمل على احتوائها وإبادتها فى النهاية. ولذلك، نعلم أن طريقة استجابة الجهاز المناعى للسرطان تنطوى على مسار مماثل لهذا، وأن الاستجابة المناعية للسرطان تشمل خطوة الإنذار والتعرف على المشكلة التى أصابت الجسم وتنشيط المزيد من أجزاء الجهاز المناعى ثم إرسال الخلايا المناعية القوية لمجابهة هذه المشكلة. إذا كان العلاج المناعى يستهدف الأمراض الوراثية فى المرضى، فهل يعنى ذلك أنه سيجتث السرطان من جذوره؟ هذا حلم نريد تحقيقه، فى اعتقادي، إمكانية صنع لقاح يحول دون ظهور مرض السرطان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك بالفعل لقاحات يمكن أن تمنع أنواع معينة من السرطان، ولذا فإن الأمر ليس خيالاً. ولكن أنواع الأمراض السرطانية التى يمكن الوقاية منها بواسطة تلك اللقاحات هى الأنواع التى تنتج عن مرض معد محدد مثل فيروس التهاب الكبد (B)، الذى يمثل مشكلة شديدة الأهمية فى مصر، وكما تعلم أن إحدى المضاعفات طويلة الأمد لالتهاب الكبد هو سرطان الكبد. ويشيع "فيروس بي" للغاية فى آسيا بصورة خاصة، ويمكن أن ينتقل عبر الدورة الدموية إلى الجنين الذى لا يقوى على مكافحته، ومن ثم تعلو مخاطر الإصابة بسرطان الكبد فى الصين وأجزاء أخرى من آسيا ولكن تم إنتاج لقاح ضد "فيروس بي" ولم نتوصل بعد إلى لقاح لفيروس سي. ويجرى استخدام اللقاح على نطاق واسع ويلاحظ أنه أسهم فى تخفيض عدد الأشخاص المصابين "ب فيروس بي" بشكل كبير، مما أدى بدوره إلى انخفاض كبير فى نسبة الإصابة بسرطان الكبد فى آسيا. ويعد فيروس الورم الحليمى هو المسبب لسرطان عنق الرحم الذى يمثل مشكلة صحية كبرى أخرى على الصعيد العالمي، ولكن يوجد الآن لقاح يمكنه منع الإصابة بعدوى الفيروس المسبب لسرطان عنق الرحم. ومع استخدام هذا اللقاح بصورة واسعة النطاق، سوف تتراجع معدلات الإصابة بسرطان عنق الرحم وبعض أنواع السرطان الأخرى. وهناك بضعة أمثلة أخرى أيضاً ولكنها توضح أنه يمكنك صنع لقاح يجعل الجهاز المناعى قادراً الآن على اجتثاث مرض السرطان من جذوره، وهو الفيروس فى هذه الحالة. لكن ماذا عن الأمراض السرطانية التى لا يُعرف ما إذا كانت تعزى إلى عدوى ما؟ ولكن. رغم المعلومات التى نملكها اليوم، لا يزال من الصعب للغاية تطوير لقاح للوقاية من أنواع السرطان التى لا تظهر بسبب جراثيم معدية واضحة. ونأمل أن نتوصل إلى ذلك ...ما المرحلة التى توصلت إليها الأبحاث فى مجال العلاج المناعي؟ ومتى يمكن استخدامه كوسيلة موثوق بها فى محاربة السرطان؟ و متى يمكننا استخدام هذا النوع من العلاج؟ تنال بعض الأبحاث الآن تصديق الهيئات الرقابية والسلطات التنظيمية بعد أن سلطت الضوء على إمكانية تحسين نتائج الطرق العلاجية وإتاحة الفرصة أمام المرضى للعيش لفترة أطول. وثبتت فعالية العلاج المناعى بالفعل فى ثلاثة أنواع مختلفة من أمراض السرطان، وأصبح الآن إحدى الطرق العلاجية المتعارف عليها. ويتمثل النوع الأول فى الميلانوما، وهو النوع القاتل لمرض سرطان الجلد؛ والثانى فى بعض حالات سرطان الرئة، وهو مرض شائع للغاية، والثالث فى سرطان الكلى. ويعد العلاج المناعى فى الوقت الراهن طريقة قياسية والمتعارف عليها فى معالجة هذه الأنواع الثلاثة من مرض السرطان. ومن المحتمل للغاية أن يتوسع تطبيق العلاج المناعى إلى المزيد من الأمراض الأخرى خلال السنوات القليلة القادمة. هل سينجح هذا النوع من العلاج فى محاربة جميع أنواع السرطان؟ من الأحرى القول إن العلاج المناعى يظهر نتائج إيجابية مع العديد من أنواع السرطان ومن المتوقع أن يمتد أثره إلى أنواع أخرى ولكن يلزم إجراء قدر أكبر من الأبحاث لتحديد إلى أين سيصل هذا العلاج فى نهاية المطاف. ..كيف تكتشفون أى عقار جديد؟ من أين تأتيكم الفكرة؟ هذا سؤال جيد للغاية نظراً إلى أنه يتطرق إلى أسس أهمية دراسة العلوم، وهو أمر لم ننجح بالقدر الكافى فى إيصال أهميته إلى الناس فلا يأتى تطوير أى عقار أو نوع من العلاج نتاجاً للحظة إلهام بعينها، بل يأتى من تراكم قدر هائل من المعرفة التى تساعدك على فهم المرض بشكل أفضل وتأتى هذه المعرفة من العديد من الطرق المختلفة؛ بعضها متعمد، أى يكون لدى الشخص رغبة قوية فى تحديد سبب تكاثر الخلايا السرطانية بصورة ضخمة، ولكن الجزء الأكبر منها يأتى فى الأساس نتيجة الأبحاث التى يحركها الفضول. ..ما الذى يحمله المستقبل لعلاج السرطان، وما هى أهم الاكتشافات التى ما زالت غير معروفة وتمثل أملا جديدا للمرضى، خاصة فى منطقة الشرق الأوسط؟ إن حجم معرفتنا اليوم حول الجوانب المثيرة للحيرة بشأن أمراض السرطان يفوق أى وقت مضى، إذ نملك أفكاراً ورؤى نتجت عن العديد من مجالات البحث المختلفة. وعندما تتوافر كمية محدودة من المعلومات حول مشكلة ما، يحين الأوان لحدوث تقدم هائل. ولذلك، أعتقد أنه إذا سألت أى شخص تقريباً يعمل فى مجال أبحاث السرطان اليوم عما إذا كان متفائلاً أو متحمساً بشأن احتمالات النجاح فى علاج هذا المرض، ستحصل على نسبة عالية من الإجابات بأنهم متحمسون للغاية. .عندما تصل أى معلومة حول العلاج المناعى إلى مسامع السكان فى مصر، فإن أول ما يتبادر إلى أذهانهم هو تكلفة هذا النوع من العلاج. إذ يبدو أنه سيكون مكلفاً للغاية.. كيف ترى هذا الامر ؟ أعتقد أن قضية اقتصاديات الرعاية الصحية شديدة الأهمية، وهناك مجموعات كاملة من المتخصصين يقضون وقتاً طويلاً فى التفكير فى ذلك وفى كيفية جعل الأدوية فى متناول سكان العديد من البلدان ذات اقتصاديات الرعاية الصحية المختلفة والأنظمة التنظيمية المتباينة، ولهذا لا أستطيع الحديث بالتفصيل عن هذا الشأن ولكن يمكننى أن أخبرك أن هذه المسألة تخضع لتفكير شامل للغاية من قبل كثيرين.