مصر ليست فقط هبة النيل كما ذكر هيرودوت.. ولكنها صاحبة الحضارة والقدر الأعظم من العجائب والأعمال والفنون التي لا توصف, فكل حضارات العالم القديم تأثرت بالحضارة المصرية وتعلمت منها ونقلتها.. هذا هو خلاصة تجارب ومؤلفات الباحثة الآثرية إنجي فايد, التي نجحت في إبراز التأثير المصري في الحضارات الإغريقية والرومانية وأيضا الفارسية وغيرها.. ولهذا, تعمقت في نشر هذا الجانب رغم صعوبته لما يرتبط بالتاريخ المصري والقديم تحديدا. ومن هذا المنطلق, تفتخر فايد بجملة تتمسك بها وهي تتحدث عن مصر والمصريين:الشعب المصري صاحب الحضارة بكل معانيها, فالكثيرون قلدوا الحضارة المصرية في كل شئ, فمصر أم الحضارات, والحضارات اليونانية والرومانية والفارسية نظروا لمصر علي أنها منجم ثقافي وعلمي غني وقلدوا الحضارة المصرية عن حب وعشق. تعود الباحثة الآثرية للوراء قليلا لتتذكر أستاذها البروفيسور يحيي الفخراني ومساعدته الدكتورة مني حجاج اللذين تأثرت بهما كثيرا حيث دفعاها للاهتمام بإبراز التأثير المصري في الحضارات الأخري. فقد توسما فيها خيرا كما تقول, ربما لإدراكهما قدرتها علي إنجاز مثل هذه الأبحاث الصعبة التي تغطي جميع أفرع الفنون علي مستوي الحضارات القديمة, المصرية واليونانية والرومانية والفارسية. وتضيف: د. الفخراني أرسي الفكرة في ذهني بأن اتخصص في دراسة وتحليل المكان الأثري وصقلني علميا بضرورة الخروج باستنتاجات تفيد بلدي والمجتمع, وقد كان بالفعل موضوعا متميزا لم يسبق لأحد التطرق اليه سواء في مصر أو غيرها. ربطت فايد الحضارة و التاريخ والجغرافيا بالفنون والآثار القديمة والحديثة, مما جعلها تستلهم فكرة كتبها عن تأثير الحضارة المصرية في بقية الحضارات القديمة: الحقيقة كلما تعمقنا في التاريخ والآثار المصرية نجد أن الأحداث التي مرت بمصر عظمية, وقد شدني موقف الشعب حيال تلك التطورات, لاستكمال إظهار عظمة مصر وتأثيرها علي القوي التي استعمرتها جغرافيا, لأثبت بالدليل العلمي أن مصر احتلت العالم القديم ثقافيا وفكريا. هذه الفلسفة دفعت الباحثة لتأليف كتابالوجود المصري في الفن اليوناني والروماني وتحدثت فيه عن تأثر العمارة والنحت في العصريين اليوناني والروماني بالفن المصري الذي سبقهما في التوصل الي أسرار البناء والتشييد.. ثم الكتاب الثاني موضوع هذا البحث بعنوان الوجود المصري واليوناني في عمارة إيران, لتؤكد فيه وجهة نظرها التي تبتغي منها تأصيل الانتماء لمصر: رحلة أبحاثي وكتبي تمنحني فخرا وقوة بكوني مصرية, وهو الأمر الذي يحتاجه شبابنا في الوقت الحالي أن يعي أهمية مصر وكيف كانت ليعيدوا لها مجدها. تتحدث الباحثة الأثرية إنجي فايد في الكتاب باستفاضة عن تأثير العمارة المصرية القديمة في صناعة المعابد والمدن الإيرانية القديمة, وتقول: من خلال دراستي التحليلية لآثار إيران, تبينت التأثير المصري الطاغي علي العمارة الفارسية سواء في استخدام أساليب معمارية كاستخدام المشابك المعدنية في ربط الأحجار ووجود مصطبة مرتفعة عريضة تقام عليها الأبنية المختلفة في عمارة وأشكال الأعمدة و التيجان والزخارف المعمارية من ظهور تاج الأنف المصري والوقفة المصرية وقرص الشمس المجنح مع استخدام المنحوتات بالحجم الطبيعي. لم تقصد الباحثة من فكرة البحث والكتاب العودة للتاريخ فقط وإنما لتأصيل فكرة تأثر الحضارات القديمة بحضارة وفنون مصر, فكلنا يعلم مدي تأثر العالم القديم أجمع بتراثنا وحضارتنا, بينما انصب مضمون البحث ليكمل منظومة بدأت بكتابها الأول الوجود المصري في الفن اليوناني والروماني ثم سلسلة تاريخ المدن عبر العصور ومنها الإسكندرية والنوبة وسيناء, لتؤكد للمصريين قبل غيرهم ضرورة أن نكون مثار اهتمام وإلهام للعالم الحديث بحيث نربط ماضينا بحاضرنا ليتأثربنا العالم الحديث مجددا. وأمامنا كما تقول فايد- ثورتا يناير و30 يونيو, وهما تمثلان نقطة تحول جذرية في المفاهيم والتصنيف السياسي, فثورة30 يونيو تعد بمثابة مدرسة سياسية جديدة, فقد لقنت العالم أجمع درسا وأكدت مقولة أفلاطون إن مصر هي أرض الحكمة والحكماء, أرض صامدة تمكنت من احتواء أحداث جسام لم يستطع غيرها الصمود أمامها. فهي ثورة غيرت مخططات العالم وليس النظام المحلي فحسب, ثورة حضارية كتبت بها مصر حقبة جديدة في تاريخها وتاريخ العالم يختلف شكلا وموضوعا عن أي فترات سابقة, لتفرض سياستها علي الجميع. نعود للكتاب الثاني الوجود المصري واليوناني في عمارة إيران حيث فوجئنا بالباحثة تقتبس في مقدمته أبيات رائعة للشاعر الكبير حافظ ابراهيم من قصيدة مصر التي تتحدث عن نفسها, لتربط بينها وبين كتاب هيرودوت المصريون أكثر الشعوب علما ومعرفة. وعندما تفسر مضمون هذا الربط تقول: طبيعي أن يكتب الشاعر حافظ إبراهيم عن بلاده التي يفتخر بها, ولكن الأقوي أن تكتب وتوثق كيف يري العالم مصر وشعبها قديما لتستشهد بكلمات لهيرودوت وقبله هوميروس وأرسطو وأفلاطون, وفي تقديري أن مثل هذه الكلمات والمقولات هي التي يجب أن تعلق في الموانئ والمطارات المصرية, وتدرس في المدارس والجامعات ليعرف المواطن المصري عظمة بلاده والأجنبي عظمة مصر وشموخها. وتضيف فايد في لهجة تحذير: نحن في زمن تهاوت فيه الثقافة وتكاد اللغة تندثر وتتلاشي هويتنا, ولم تتوقف عند مجرد التحذير,لتأتي بالحل سريعا وهو في نفس الوقت أمل: فما أجمل أن نحيي كلمات شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم وغيره من العظماء الذين تركوا إرثا شعريا وطنياضخما, ناهيك عن أغانينا الوطنية التي تربينا علي معانيها رغم أننا لم نعش زمانها. وهل تتوجهين بهذا الربط لتذكير مؤسسات الدولة بتاريخنا الذي كان أم لتذكير النشئ والاطفال بتاريخنا العظيم؟..هذا لم يكن مجرد سؤالا عابرا لتتلقفه الباحثة الآثرية مباشرة وتندفع موجهة حديثها لوزير التربية والتعليم والقائمين علي تطوير المناهج, لتطالب بضرورة وضع مادة علمية تساهم في تعريف الطالب بدور وأثر مصر في حضارات العالم القديم ليخرج من عباءة الحفظ الي الدراسة والفهم والمقارنة العلمية ومعرفة التاريخ الذي يقوي لديه الشعور بالإنتماء...مادة التاريخ والتربية القومية من المواد الهامة التي لابد لنا في هذه الظروف أن نسعي لتنمية وتجديد أسلوبها, ولطالما تمنت أن تعيد وزارة التربية والتعليم تدريس كتاب الأخلاق لأحمد أمين الذي كان يدرس فترة الثلاثينيات من القرن الماضي لطلبة المدارس الثانوية.. مع ضرورة ربط بين التاريخ والآثار من خلال منهج تربوي جديد يمهد الطالب قبل زيارته للأثر..وعلي المستوي السياحي, فلابد من وضع أماكن جديدة علي خريطة السياحة المصرية مثل متحف ايمحوتب في سقارة ومتحف السويس..الخ. ورغم دراسات الباحثة إنجي فايد المتخصصة في آثار وفنون الحضارات القديمة, إلا أنها شغوفة بتقريب الثقافات والحضارات ليس بين الشعوب فقط ولكن علي المستوي المصري..ولهذا اهتمت بنشر الوعي الآثاري للطفل تحديد والمواطن العادي, وساعدها هذا التحفز لوضع ما اسمته ب سياسة مصر لتنمية الوعي الأثري خلال فترة توليها منصب مدير التنمية الثقافية في المجلس الأعلي للآثار علي مدي11 عاما. ومارست تنفيذ خطتها من خلال المتاحف والمناطق الأثرية من أجل هدف أساسي يتركز في تحقيق التنمية الثقافية والأثرية التي تعد جزءا من مكونات التنمية المتقدمة, كذلك نشر الوعي الأثري وتعميقه لدي القطاعات الأوسع من المواطنين وبالأخص منهم الأطفال والشباب. وتقول فايد: تعد هذه السياسة فرصة سانحة للمساهمة في بناء الإنسان وهو ما يزال في مراحل الطفولة لغرس القومية المصرية بداخلهم لترسيخ الإنتماء الوطني لتحقيق انتشار ثقافة التعامل مع الأثر بإعتباره تاريخا مجيدا وحاضرا ينبغي صيانته والحفاظ عليه. ومن الآثار الي الثقافة, يمتد الحوار, لتطالب إنجي فايد بأن نتحدث للعالم ونخاطبه بامكانياتنا وليس حديثا داخليا بين المصريين, ويستلزم هذا أن يكون لدي مصر أجندة ثقافية عالمية ثابتة ليحرص السائح العربي والأجنبي علي المشاركة في فعالياتها, علي أن تستلهم الأجندة مضمونها من حضارتنا كإحياء احتفال عيد حبت بالأقصر, ظاهرة تعامد الشمس في شهري فبراير ونوفمبر من كل عام, الاحتفال بيوم التراث العالمي, ويوم المتاحف العالمي,