مخطيء من يظن أن روسيا اتخذت قرارها المفاجيء بسحب قواتها من سوريا لأنها «خسرت الحرب»، إذ أن الواقع هو العكس تماما، وهو ما يشهد به خصوم بوتين أنفسهم الآن! ضرب الرئيس الروسى «الداهية» فلاديمير بوتين عدة عصافير بحجر «الانسحاب»، وذلك على النحو التالى : أولا : أثبت بوتين قدراته كسياسى محنك بخلاف قادة دول كبرى أخرى، فكان قراره بخوض الحرب مفاجئا وأحاديا، ودون استشارة أى من الأطراف الخارجية، باستثناء تنسيقه مع حكومة دمشق، ثم جاء قراره بالانسحاب أيضا مفاجئا وأحاديا، ولم يستشر فيه أحد، إلا دمشق. ثانيا : جاء قرار بوتين بالانسحاب فى توقيت مناسب تماما، حيث فوت على الإعلام الغربى فرصة توجيه حملة دعائية ضده بوصم وجوده العسكرى فى سوريا بأنه «مستنقع» أو «أفغانستان الروسية»، وخرج بأقل الخسائر البشرية والمادية، والمقاتلة السوخوى التى أسقطتها تركيا، كما جاء الانسحاب أيضا قبل زيادة التكلفة، خاصة وأن روسيا تكبدت 800 مليون دولار فى خمسة أشهر فقط. ثالثا : احتفظ بوتين رغم قرار الانسحاب بحقه وفرصته فى العودة من جديد، وهو ما أكدت عليه بثينة شعبان مستشارة الرئيس السوري، وكذلك حقيقة احتفاظ روسيا بجزء غير قليل من عتادها العسكرى على الأرض السورية، فضلا عن قاعدتيها العسكريتين الرئيسيتين فى اللاذقية وطرطوس. رابعا : نجحت روسيا فى تحقيق انتصار عسكرى لا جدال فيه، بعد أن تسبب تدخلها فى تغيير جذرى فى موازين القوى على الأرض السورية، بدليل هروب معظم قيادات وعناصر تنظيم داعش الإرهابى إلى خارج سوريا، وتحديدا إلى العراق وليبيا، والقضاء على نقاطهم الاستراتيجية الرئيسية، وكذلك قطع خطوط إمداداتهم بالمال والسلاح والمقاتلين من الدول المجاورة، وبخاصة تركيا، فضلا عن فضح عمليات بيع البترول المهرب إلى الخارج لدعم اقتصاديات «الدولة الإسلامية». خامسا : ثبتت روسيا أقدامها كلاعب فى «التشكيل الأساسي» لمنتخب الكبار بعد ثلاثة عقود من التراجع الذى أعقب انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، وكانت مسألة عودة روسيا إلى دائرة صنع القرار العالمى أمرا حاسما وهدفا استراتيجيا بالنسبة لموسكو منذ سنوات طويلة، وباتت دولة لا يمكن الاستغناء عنها، ولذلك كان وصف ألكسندر باونوف كبير الباحثين فى مركز كارنيجى بموسكو دقيقا عندما قال إن روسيا «استعادت عضويتها فى مجلس إدارة العالم»، وأيضا بدليل ما ذكره وزير الخارجية البريطانى فيليب هاموند ل «بى بى سي» من أن «شخصا واحدا فقط يستطيع أن ينهى الحرب السورية»، فى إشارة إلى بوتين! سادسا : نجح بوتين فى «تعرية» جميع أطراف الأزمة السورية والمتسببين فيها : من يروج لشعارات الثورة والتغيير، ومن يمول، ومن يسلح، ومن يدعم، ومن يكذب، ومن يؤجج، ومن يراوغ، وأصبح المجتمع الدولى بأكمله يعرف تمام المعرفة دور كل دولة وكل منظمة أو تكتل فى الصراع السوري. سابعا : نجحت روسيا فى ترسيخ أقدام نظام الرئيس السورى بشار الأسد وجيشه ومؤسساته التى كانت على وشك الانهيار فى فترة ما، وذلك بفعل الإصرار الروسى على تأكيد مبدأ شرعية الأسد، ورفض تقسيم سوريا، والأهم من ذلك مبدأ التفرقة بين فصائل المعارضة السورية وإبعاد المتهمين بالإرهاب وحمل السلاح ضد الدولة من أى عملية سياسية، بما فى ذلك مفاوضات جنيف. ثامنا : بعث الانسحاب الروسى أيضا برسالة إلى الرئيس السورى بشار الأسد، مفادها أن روسيا مستمرة فى دعم سوريا، ولكن لا يجب الاعتماد علينا للأبد»، وهى رسالة مهمة قبل الحديث عن مرحلة انتقالية تتفق كثير من الأطراف فيها حول ضرورة عدم وجود الأسد فى أى عملية سياسية مستقبلية فى سوريا. تاسعا : نجح بوتين فى زيادة شعبيته فى روسيا إلى أعلى معدلاتها أكثر من أى وقت مضى، بعد نجاحه فى إدارة الأزمة سياسيا وعسكريا، بجانب أوضاع اقتصادية صعبة ناجمة عن العقوبات المفروضة على بلاده منذ أزمة أوكرانيا. عاشرا : قدم الانسحاب الروسى أقوى دفعة لمفاوضات جنيف بين الحكومة السورية والمعارضة، وأصبحت مواقف الأطراف المختلفة مكشوفة تماما، شأنها شأن باقى الأطراف الدولية والإقليمية، إذ ستتوقف نغمة إلقاء اللوم على الوجود العسكرى الروسى فى إفشال جهود التسوية أو الوصول إلى صيغ سياسية جديدة قد لا تجد موسكو مبررا لدس أنفها فى تفاصيلها!