لا يملك من يتابع المشهد المصري الآن ونحن نقترب من المرحلة الأخيرة للمرحلة الانتقالية لا يملك إلا الشعور بالحيرة والارتباك. وقد انتشر خلال السنوات الأخيرة تعبير الفوضي الخلاقة حين استخدمته كوندو ليزا رايس. والحقيقة أن أصل هذا التعبير يرجع إلي الاقتصادي النمساوي الأمريكي شومبيتر حين أشار إلي أن التقدم الاقتصادي ينطوي علي نوع من الهدم البناء والذي اصطلح عليه بالفوضي الخلاقة. فالتقدم يؤدي إلي هدم القديم, ولكنه هدم بناء, وهكذا فهناك دائما صراع بين القديم والجديد. ونظرا لأن الثورة أي ثورة هي تعبير عن هجوم كاسح للجديد في مواجهة القديم, لذلك تعرف الثورات دائما مثل هذا الصراع بين الجديد والقديم, أو بين ما يعرف باسم الثورة والثورة المضادة. وتزداد الأمور صعوبة ليس فقط نتيجة للمواجهة بين الجديد والقديم, وإنما لأنه في كثير من الأحوال نجد إن الجديد لا يعرف ماذا يريد؟ بقدر ما يعرف ماذا لا يريد. ويكفي أن ننظر إلي تطور الأحداث خلال انتخابات الرئاسة, لكي نتيقن بأننا أزاء أوضاع بالغة الارتباك والغموض. والسؤال المطروح هل ما نراه هو مجرد ارتباك وتخبط وتبديد للوقت والموارد, أم أنه في الحقيقة أقرب إلي الهدم البناء, وأنه بذلك يمهد الطريق لإصلاحات قادمة؟ بدأت الانتخابات الرئاسية مع عودة ظهور قضية الدستور أولا, وهي القضية التي بدأت في الأيام الأولي للثورة, حين اتجه عدد كبير من المفكرين آنذاك إلي تحبيذ البدء بإعداد الدستور أولا, ثم تجري انتخابات البرلمان والرئاسة لاحقا. فالدستور هو الذي يحدد أهم معالم النظام السياسي وقواعد اللعبة السياسية الجديدة. وقد عادت هذه المشكلة من جديد عند النظر في كيفية تشكيل اللجنة التأسسية لوضع الدستور, علي ما هو معروف. وانتهي الأمر بحكم القضاء بوقف تنفيذ التشكيل الذي قام به مجلسا الشعب والشوري. ثم جاء قرار حزب الحرية والعدالة بالترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية, بعد الإعلان في أكثر من مرة بأن الحزب لن يتقدم بمرشح لهذا المنصب, مما فتح الباب أمام ترشح عمر سليمان وبداية ظهور عودة أقطاب النظام السابق. وهكذا فتح باب الترشيح للرئاسة مجالا جديدا للخلاف, وخاصة فيما يتعلق بالعزل السياسي. وبرغم أن مفهوم العزل السياسي قد عرفته معظم الثورات, إلا أن توقيت وأسلوب تنفيذ هذا المبدأ جعله أشبه بقرار فردي موجه لأشخاص معينين بدلا من أن يكون مفهوما عاما لحماية الثورة. فإقتصر العزل من كبار الموظفين علي منصبي نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. فإذا كان منصبا نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في العهد السابق يمثلان خطرا لعودة رموز العهد القديم, فهل كان منصب الوزير أقل شأنا؟ وماذا عن دور وزير الداخلية مع مبارك مثلا؟ هل هذا المنصب أقل ارتباطا بالعهد السابق؟ وماذا عن رئاسة الوزارة, والتي تولاها بالفعل منذ قيام الثورة اثنان من وزراء ورؤساء وزارات مبارك! ولذلك فقد جاء هذا القانون نظرا لتوقيته ومداه محلا لجدل كبير. وكان موقف اللجنة العليا للانتخابات أقرب إلي العلاج السياسي منه إلي الحكم القضائي. وفي هذا الجو الملتبس ظهر علي رأس المرشحين للرئاسة أربعة من الإسلاميين أصبحوا بعد استبعاد الشيخ أبو إسماعيل ثلاثة هم الدكتور أبو الفتوح والدكتور العوا والدكتور مرسي. وهذا يمثل تطورا جوهريا في الحياة السياسية المصرية, بتقدم أصحاب الفكر السياسي الإسلامي لتولي مسئولية إدارة الحكم بعد عقود طويلة من الاستبعاد من الحياة السياسية وإخضاعهم لعمليات تنكيل واضطهاد وإقصاء.ورغم هذا الزخم السياسي الإسلامي, فإن الناخب والمواطن المصري مازال حائرا حول هؤلاء المرشحين. حقا, يعرف المواطن أن هؤلاء المرشحين يختلفون عن المرشحين المدنيين. فالمرشحون الإسلاميون ذوو خلفية أو مرجعية إسلامية. ولكن ما هو الفارق بين المرجعية الإسلامية لأبو الفتوح مثلا عن المرجعية الإسلامية للعوا أو مرسي؟ وهل يختلفون كلية عن حازم أبو إسماعيل مثلا؟ أم أن الفروق بينهم هي اختلافات شخصية في المزاج والأولويات؟ وهكذا ينطوي المشهد السياسي القائم علي ارتباك كبير أشبه في كثير من الأحيان بما يطلق عليه الفوضي السياسية. وهنا يحق التساؤل هل هي مجرد فوضي فقط, أم أنها فوضي خلاقة, إنني من المقتنعين بأن ما يحدث في مصر حاليا هو في الأمد الطويل أمر صحي وخير لمصر, وإن كان ذلك بتكلفة مرتفعة في المدة القصيرة. علي عدد من المكاسب السياسية في المدة الطويلة لما نعانيه الآن. وأول هذه المكاسب هو استعادة الشعب المصري لحقه في تقرير مصيره وأخذه الأمور بيديه. فنزول الجماهير إلي الشارع والميدان للمطالبة بما تعتقده هذه الجماهير إنه حقها المشروع, هو تطور بالغ الأهمية والخطورة علي مستقبل الحياة السياسية في مصر. والآن ولقد استعاد الشعب دوره في الإعلان عن رغباته وتطلعاته, فلن يستطيع حاكم في المستقبل أن يتجاهل هذه الحقيقة الجديدة. وليس معني ذلك أن المظاهرات والاعتصامات كانت في جميع الأحوال مبررة أو مفيدة, فقد كانت هناك تجاوزات وانحرافات. ولكن الخطوة الأولي قد تحققت. ومع التجربة والنضج السياسي, فمن المتوقع أن يكون التعبير عن المطالب الشعبية أكثر انضباطا ووضوحا في المستقبل. والخطوة الأولي هي دائما الأكثر أهمية برغم أنها قد لا تكون الأكثر حكمة. هذا عن المكسب الأول في عودة الوعي للشعب. أما المكسب الثاني يتعلق بنهاية الحكم العسكري في مصر وعودة الجيش إلي مكانه الطبيعي في حماية الحدود والدفاع عن المصالح الإستراتيجية العليا للبلاد. ويرجع هذا الأمر إلي أن التجربة الحالية قد أظهرت لكل من المواطنين في عمومهم كما للجيش أيضا, أن مهمة الحكم ليست لرجال الجيش, وأن استغراقهم في العمل السياسي اليومي هو محرقة للجيش نفسه كما أنه خسارة للبلاد. وأنا شخصيا لست من المقتنعين بنظرية المؤامرة. ولكني, وبالمقابل, لا أشك لحظة في أن إدارة المجلس العسكري لأمور البلاد السياسية خلال العام المنصرم قد شابها الكثير من الأخطاء. وقد اضطر المجلس إلي عقد توافقات وقتية تبين أن لها آثارا ضارة بعيدة المدي. فهناك فارق كبير بين العمل السياسي وبين أعمال القوات المسلحة. فالسياسة هي ميدان التجربة والخطأ وتعدد الرؤي السياسية بين الأحزاب, ومن أخطأ يخسر الجولة ويترك مكانه لفريق سياسي آخر كان يعمل علي إسقاطه. أما الجيش والقوات المسلحة فليس لديها ترف التجربة والخطأ, فشعارها النصر أو الشهادة, وأي خطأ يرتكبه الجيش يفقده الثقه في نفسه كما يفقده ثقة الجماهير فيه. ومن هنا فمن الضروري أن يبتعد الجيش عن أعمال السياسة اليومية التي هي بطبيعتها مجال للتجربة والخطأ, ليقتصر علي المجال الأكثر تحديدا ووضوحا وهو حماية أمن البلاد والدفاع عن مصالحه الإستراتيجية العليا في الأمن والاستقرار. وأعتقد, وأرجو ألا أكون مخطئا, أن يكون المجلس نفسه قد اكتشف أن تصدي العسكرية للحياة السياسية خسارة للجيش نفسه بقدر ما هي خسارة للبلد. ذلك أن هناك تناقضا كاملا بين عمل العسكري وعمل السياسي. ولا شك أن تجربة المجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية وما شابها من صعوبات هي أفضل تأمين لعودة الجيش إلي دوره الطبيعي. وفي نفس الوقت فإن وجود الجيش كخط دفاع أخير لحماية أمن البلاد هو المكسب الحقيقي. وقد أثبت الجيش المصري ذلك عمليا خلال الفترة الأخيرة, فقد كان موقف الجيش المعارض للتوريث هو الضمانة الرئيسية لنجاح الثورة, كما أن مساندته في الأزمة الأخيرة لقرار وقف تصدير الغاز للشركة الإسرائيلية والذي اتخذته الهيئة العامة للبترول وفقا للعقود التجارية القائمة بين الشركات المعنية والتي ما كانت تتم لولا دعم الجيش لها. وأما المكسب الثالث للثورة فهو وضع الإسلام السياسي موضع وتأهيله للنضج السياسي. فلا أحد ينكر أن مصر في مجموعها تقوم علي شعب متدين, وأن الإيمان بالإسلام عميق في النفوس, وقد كانت مواقف رجال الدين والأزهر في مصر الحديثة منذ الحملة الفرنسية شديدة الوطنية. ومنذ بدايات القرن العشرين بدأت جماعة الإخوان المسلمين في التنظيم من أجل الإصلاح السياسي, ولكنها خضعت طوال ما يقرب من تسعة عقود للاضطهاد والإقصاء والتعذيب. وقد استطاعت هذه الجماعة في ضوء هذه الأوضاع أن تطور إستراتيجية ناجحة للبقاء والاستمرار برغم كل جهود المحاصرة والمحاربة, كما استخدمتها حكومات متعددة كفزاعة للتخويف والترويع. وفي هذا الجو غير الطبيعي نجحت الجماعة في حماية نفسها, وأحيانا في الازدهار مستخدمة كل أنواع الأسلحة المتاحة من المناورة إلي الإرهاب أحيانا, وإلي الصفقات والتفاهمات الجزئية قبل الانقلاب والمواجهة مع مختلف الحكومات, بدءا من التعامل مع الإنجليز إلي القصر إلي الوفد ثم مع ثورة يوليو إلي السادات في أيامه الأولي, وأخيرا مع المجلس العسكري نفسه. وقد اكتسبت الجماعة خلال هذه التجربة الطويلة قدرة هائلة علي المناورة والبقاء والتعايش, إن لم يكن الازدهار في ظل ظروف مناوئة. ويبدو أننا وصلنا إلي الفصل الأخير. فها هي الجماعة وغيرها من الاتجاهات الإسلامية تقترب من الحكم, وتحتاج بالضرورة إلي إستراتيجية جديدة. والمطلوب الآن هو إستراتيجية جديدة لتحمل مسئولية الحكم ومواجهة قضايا العصر في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية ومختلف نواحي الحياة الحديثة. وهذا اختبار كبير, فإما أن تنجح فيه وتقدم تصورات عملية تنهض بالأمة, وإما أن تفشل. لقد جاءت لحظة الحقيقة والاختبار الفعلي. ولست أشك في أن نتائج هذه التجربة ستكون بالضرورة ظهور نوع من الإسلام السياسي المعتدل والواقعي والمتفائل. وأخيرا, فأعتقد أن تجربة هذه الفترة قد أظهرت, بما لا محل للشك فيه, أن وجود قضاء مستقل ومحايد يطبق القانون بحزم وأمانة أمر لا مناص منه. فالمجالس المنتخبة تخضع في كثير من الأحوال للضغوط الشعبية وأحيانا المطالبات الشعبوية. والقانون هو الضمانة النهائية للمستقبل. ويحتاج القانون إلي قضاء مستقل وواع. وقد أوضحت الأحداث الأخيرة خطورة دور القضاء المستقل. وهذه كلها مكاسب مهمة تجعل من الثورة, برغم اخفاقاتها الوقتية والمتعددة, كسبا تاريخيا مهما للشعب المصري. ولكن ينبغي أن نتذكر أننا وبرغم هذه المكاسب المهمة والكبيرة, فإننا نواجه أيضا مشكلات عاجلة وخاصة في مجالات استعادة الأمن والاستقرار وعودة الحياة الاقتصادية الطبيعية, ودون ذلك فقد تكون الخسارة أكبر مما نتوقع. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي