رئيس جامعة القاهرة يشهد انطلاق العام الدراسي الجديد بكليات الجامعة ومعاهدها    القوات المسلحة تنفذ مشروعًا تكتيكيًا بجنود وبالذخيرة الحية - فيديو    "الشيوخ" يعود للانعقاد في الدور الخامس الأربعاء المقبل    خريطة الأسعار اليوم: ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن والحديد والذهب    رئيس الوزراء يشهد احتفالية تسليم جائزة التميز العالمية للمنصة الجغرافية لجنوب سيناء    بعد إلغاء الاشتراطات البنائية، التنمية المحلية تعلن موعد العودة لقانون البناء الموحد    بث مباشر.. رئيس الوزراء يشهد احتفالية فوز جنوب سيناء بجائزة التميز العالمية    حزب الله ينعى الأمين العام السيد حسن نصرالله    الخارجية الإيرانية ناعية حسن نصر الله: المسار المجيد لقائد المقاومة سيستمر    نجم آرسنال السابق يثير الجدل حول انتقال هالاند للدوري السعودي    "قالوا عليا مجنون".. مالك وادي دجلة يعلق على مباراة السوبر الأفريقي    أستاذ تزوير مستندات وشهادات.. سقوط "ابن القنصل" في عين شمس    شبورة كثيفة ونشاط رياح.. الأرصاد تكشف حالة الطقس غدا    أبرزها تجاوز السرعة.. تحرير 26 ألف مخالفة مرورية متنوعة في يوم واحد    الأحد.. وزارة الثقافة تنظم حفل "كلثوميات" في معهد الموسيقى العربية    أشرف زكي ومحسن منصور في جنازة زوجة إسماعيل فرغلي (صور)    دفاع طليقة المطرب سعد الصغير: «نطالبنا بتعويض مليون جنيه»    ما حكم كشف قَدَم المرأة في الصلاة؟.. تعرف على رأي الإفتاء    مؤتمر الأهرام للدواء.. الجلسة الأولى تناقش لوائح وقوانين لمواجهة تحديات الصناعة وتوطينها    ارتفاع حصيلة عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة إلى 41586 شهيدا و96210 مصابين    الإسكان تكشف الاستعدادات فصل الشتاء بالمدن الجديدة    إحالة شخصين للجنايات بتهمة خطف فتاة لطلب فدية بالمطرية    رئيس جامعة عين شمس يتفقد الحرم الجامعي والأنشطة الطلابية (فيديو)    زراعة الشرقية: التصدى لأى حالة تعد على الأرض الزراعية    «تربية رياضية كفر الشيخ» تحصل على الاعتماد من «الضمان والجودة»    «الفريق يحتاج ضبط وربط».. رسالة نارية من نبيل الحلفاوي لإدارة الأهلي بعد خسارة السوبر الأفريقي    كم حقق فيلم عنب في شباك تذاكر السينما بعد 72 ساعة عرض؟.. مفاجأة    برلماني: التحول للدعم النقدي يسهم في حوكمة المنظومة ويقضي على الفساد    وزير التربية اللبناني يعلن تعليق الأنشطة التدريسية في الجامعات لأسبوع    وزير الشباب والرياضة يفتتح أعمال تطوير الملعب الخماسي بمركز شباب «أحمد عرابى» في الزقازيق    منة فضالي تعلن بدء تصوير الحلقة الأولى من مسلسل سيد الناس    مرض السكري: أسبابه، أنواعه، وعلاجه    أول قرار من كولر تجاه لاعبي الأهلي بعد العودة من السعودية    رئيس جهاز السويس الجديدة تبحث مع مستثمري منطقة عتاقة تنفيذ السياج الشجري بطول 7 كيلو    الضرائب: إتاحة 62 إتفاقية تجنب إزدواج ضريبى على الموقع الإلكتروني    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: الإسلام وضعهم في مكانة خاصة وحثَّ على رعايتهم    علي جمعة: سيدنا النبي هو أسوتنا إلى الله وينبغي على المؤمن أن يقوم تجاهه بثلاثة أشياء    بعد واقعة النزلات المعوية.. شيخ الأزهر يوجه ب 10 شاحنات محملة بمياه الشرب النقية لأهل أسوان    اختتام فعاليات اليوم العلمي للعلاج الطبيعي ب"صدر المنصورة"    بعد إعلان إسرائيل اغتيال حسن نصر الله.. «رويترز»: نقل المرشد الإيراني لمكان آمن    وكيل صحة البحيرة يزور مركز طب الأسرة بالنجاح| صور    رانيا فريد شوقي وحورية فرغلي تهنئان الزمالك بحصد السوبر الإفريقي    جيش الاحتلال الإسرائيلي يعترض صاروخا بالستيا جديدا أُطلق من لبنان    «الزراعة»: مصر لديها إمكانيات طبية وبشرية للقضاء على مرض السعار    رئيس هيئة الدواء: أزمة النقص الدوائي تنتهي خلال أسابيع ونتبنى استراتيجية للتسعيرة العادلة    وزير خارجية الصين يشيد بدور مصر المحوري على الصعيدين الإقليمي والدولي    وزير الخارجية والهجرة يلتقي مع وزيرة خارجية جمهورية الكونغو الديموقراطية    30 يومًا.. خريطة التحويلات المرورية والمسارات البديلة بعد غلق الطريق الدائري    أوستن: لا علم للولايات المتحدة بيما يجري بالضاحية الجنوبية لبيروت    توافد العشرات على ضريح عبد الناصر فى ذكرى رحيله ال 54    اليوم.. محاكمة سعد الصغير بتهمة سب وقذف طليقته    سعر الفراخ اليوم السبت 28 سبتمبر 2024.. قيمة الكيلو بعد آخر تحديث ل بورصة الدواجن؟    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    كولر: لم نستغل الفرص أمام الزمالك.. والخسارة واردة في كرة القدم    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    "ظهور محتمل لمحمد عبدالمنعم".. مواعيد مباريات اليوم السبت والقنوات الناقلة    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسلام واحد.. بلا مذاهب
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 02 - 2016

قالها الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت فى عام 1963: «ليس كل ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإرشاداته يعد تشريعاً ذا حجية مُلزمة شرعاً للمسلمين».. ولنا أن نتصور القفزة الهائلة لتجديد الفكر الإسلامى فيما لو روعى هذا الجانب والأخذ بقول شلتوت، وتمت عملية فرز دقيقة للعناصر التى يُظن أنها ملزمة بينما هى فى حقيقة الأمر ليست كذلك».. وفى جلسة لنامع الإمام الأكبر قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر: «إن قانون التجدد أو التغير إنما هو فى الأصل قانون قرآنى وسُنة من سُنن الكون التى لا تتبدل ولا تتحول، وهو جوهر تراث الإسلام وروحه وطاقته التى تحركه، وقد وضعه الله شرطاً فى كل تحول إلى الأفضل فى نصوص قرآنية واضحة وضوح الشمس (إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم) و(ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم) ولابد وأن تتميز الشريعة عن الفقه تميزاً حاسمًا، وأن تنحصر فى المقام الأول فى نص القرآن والسُنة الصحيحة، أما استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومتحدثين ومتكلمين فيجب أن ينظر إليها على أنها معارف بشرية، أو تراث يؤخذ منه ويترك، ولا ينبغى أن يفهم من ضرورة هذه التفرقة أننا ندير ظهورنا لتراثنا الفقهي، أو نقلل من أقدار فقهائنا، أو أننا نستبدل به عناصر غريبة عنه تناقض طبيعته، ولكن هذا شيء والنظر إليه بعين العصمة شيء آخر، فالتراث ليس كله مقبولا، وليس كله مرفوضا، وبتعبير أدق ليس كله قادرا على مواجهة مشكلات العصر وليس كله أيضاً بعاجز عن التعامل معها، ومن المستغرب أن تركن الأمة إلى التقليد فى عصرنا هذا وتتخذ منه ما يشبه المنهج الثابت فى علاج قضايا العصر بينما تقرأ فى كلام أئمة الفكر تحذيرا واضحا ونهيا صريحا عن التقليد باعتباره طريقا يفضى لا محالة إلى الجمود وقتل ملكة التفكير وشل حركة التجديد والإبداع، وهذا ما جاء فى عبارات لهم مثل «لا تقلدني» وقولهم «يتبع الرجل ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد فى التابعين، مخير». ويستطرد الطيب قائلا: لقد ضرب الإمام مالك مثلا رائعا عندما طلب منه الخليفة المنصور أن يقدم كتابا يترك فيه شدائد عبدالله بن عمر، ويترك فيه رُخص ابن عباس، ويتخلى عن شواذ بن مسعود، ويجمع أوسط العلم ليتفق الناس عليها، فشمر الإمام مالك عن سواعد الجد وقدم كتابه النفيس «الموطأ» الذى وطأه أى وافقه الناس عليه، فلما أعجب به المنصور أراد أن يفرضه على الأمة وأن يبعث به إلى كل الأقطار الإسلامية، ويلزم كل الناس به (واجعل العلم يا أبا عبدالله واحداً)، لكن الإمام مالك رفض بقوله: يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى البلد وعند بعضهم ما ليس عند الآخرين، وفى كل بلد من السنن والأحكام والاجتهاد ما يختلف عن غيرهم، فدع الناس وما اختاروا بما يناسب مكانهم وزمانهم مادام ما ذُهبوا إليه لم يصادم نصا فى كتاب الله أو صحيح سُنة رسوله، يا أمير المؤمنين: «إن اختلاف العلماء رحمة من الله بهذه الأمة، فكل يرى ما صح عنده، وكل على هدي، وكل يريد وجه الله، وأن لأهل البلد (مكة) قولا، ولأهل المدينة قولا تعدّوا فيه طورهم»، ولما قال المنصور: «إنما العلم عند أهل المدينة (فضع للناس علماً)»، رد عليه الإمام: «إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون فى علمهم رأينا»..
وإذا ما كان الفكر النبوى قد جعل التجديد سنة الله وقانونا من قوانين الفكر الإسلامي: «يبعث الله لهذه الأمة كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها»، فلقد كان الشيخ الإمام الأكبر محمود شلتوت بمثابة جوهرة مائة عام كاملة، إذ كان البوصلة والجوهر والمرجع والأستاذ القاطع بالرأى الذى لا يخاف فى الحق لومة لائم.. كان المفتى بالحق الشجاع بالعلم الداعى بسلامة المنطق القادر بقوة الإقناع المنصت للرأى الآخر، المنطلق بفكره من قيود التقاليد، المنادى بالتجديد.. من كان يرحب بالذهاب إلى القمر ليرى بعينه أثرا من آثار القدرة الباهرة لله الفعال لما يريد.. من أطلق عليه العقاد لقب إمام التوفيق والتقريب.. من فرق فى مقالة بعنوان شخصيات الرسول بين الرسول كرسول معصوم يوحى إليه، والرسول كبشر يعتريه ما يعترى أى بشر من عوارض.. الذى نفى الكُفر عمن يعتقد أن عيسى عليه السلام قد توفي، واستشهد بالآيات القرآنية ومنها «فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم».
شلتوت الإمام الأكبر رحب الصدر الذى لا يضيق بالسؤال وإن جاوز السؤال حدود السؤال.. من أفتى بشجاعة الحق أن الإسلام لا يوجب على أحد اتباع مذهب معين، ولمن قلد مذهبا من المذاهب أن ينتقل إلى غيره ولا حرج عليه فى شيء، ومن جهود الشيخ الفكرية والعلمية التى تبناها الأزهر الشريف فى عهده احتضانه لكل المذاهب الإسلامية الموثقة المصادر، وإصدار الموسوعة الفقهية باعتماد المذاهب الفقهية الإسلامية الثمانية: الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، والجعفري، والزيدي، والإباضي، والظاهرى مما جعل الأزهر متفردا بين كل الجامعات الإسلامية، فاتحا الباب أمام إسلام واحد بلا مذاهب.
شلتوت.. ابن منية منصور مركز إيتاى البارود بمحافظة البحيرة ولد فى الساعة التاسعة والدقيقة العشرين من مساء22 أبريل1891 ليشق طريق التلمذة حتى الأستذة فى مدرسة الإحياء والتجديد للإمام محمد عبده، كان يقطن بالشقة رقم7 بالدور الثالث من العمارة رقم12 شارع إسماعيل الفلكى بحى الظاهر قبل انتقاله عام 58 إلى فيلته فى مصر الجديدة، وذلك بعد إنجابه أربعاً أنجال: إيهاب الضابط والمهندس سعيد وخبير البترول أحمد وجلال موجه العلوم بالأزهر ومن البنات أربع نزيهة وحكمت وفوزية وفكرية.. ذريته أنجبت ما شاء الله أربعين حفيدا أنجبوا بدورهم قبيلة من الأبناء والأحفاد.. فى الحرب العالمية عام1942 كانت كلما دوت صفارة الإنذار وبدأت المدافع المضادة للطائرات ترسل هديرها، يهرع الجميع إلى المخبأ، يلتمس طريقه فى الظلام، وكان الشيخ يأخذ فى بث الشجاعة فى نفوس الأطفال الذين يستولى عليهم الجزع قائلا للصغير: أتبكى ليضحك منك الناس؟ وهل يبكى الرجال؟ أنسيت أنك رجل صغير؟ فيكف الطفل عن البكاء، ويسأل أباه: وهل الرجل الصغير لا يبكي؟ فيقول له: كلا، وإلا فإنه لا يكبر، بل يظل طوال حياته رجلا صغيرا.. فإذا فرغ من تسكين روع صغاره استدار إلى الكبار ممن يضمهم المخبأ، ومضى يشغلهم بالحديث عن متابعة قصف المدافع ودوى القنابل، ويؤكد لهم أن الألمان لا يبغون شرا بالشعب المصرى الآمن، وأنهم لا يلقون القنابل جزافاً، بل يحددون أهدافهم بدقة! ويحدث يوما بينما يؤكد لمن أطار الرعب صوابهم من السيدات والرجال، مدى دقة الطيارين الألمان فى إصابة أهدافهم أن سقطت قنبلة ضخمة على مسافة تبعد عن المخبأ بضع عشرات من الأمتار، فإذا بالمخبأ ينشال وينحط، وصاحت إحدى السيدات مولولة باكية تقول له: ها هم الألمان يا سيدنا يلقون القنابل جزافاً فقال لها بسرعة بديهته: لا تصدقي! لابد أن يكون هذا الطيار طيار إيطالى خايب!.. وتنتهى الحرب العالمية، وتأتى بعدها بسنوات حرب فلسطين، وتدوى صفارات الإنذار من جديد، ويسارع سكان المنزل جميعا إلى المخبأ ماعدا الشيخ شلتوت، فقد ظل يلازم مسكنه مع أسرته، على الرغم من أنه يقطن فى الطابق الأخير، والطوابق الأخيرة معرضة لخطر الغارات أكثر من سواها، ويسألونه لماذا لا يلجأ إلى المخبأ فقال: لأنه من المخجل أن ترغمنا دولة من الأفاقين، كدولة إسرائيل على دخول المخابئ، ده عيب قوي!.
الشيخ شلتوت من تميز بشجاعته الأدبية فى مواجهة الأحداث، وحرية الرأى فيما يبدى من آراء، ومن هنا وضع اسمه فى قائمة السراى السوداء خلال حكم الملك فؤاد ومن بعده فاروق، ولم يحفل بما ناله من اضطهاد السراى ومن محاربتها له حربا لا هوادة فيها بلغت التعنت فى موارد الرزق، فاستقال من وظيفته واشتغل بالمحاماة مع الشيخ على عبدالرازق الذى كان قد فصل من القضاء الشرعى بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وكان يضطلع بالقضايا الشرعية الكبرى المعقدة.
كان فضيلته يثور على أصحاب سرادقات المآتم الذين يضعون الميكروفونات المتعددة لتجسيم صوت المقرئ بكيفية تثير أعصاب الأهالي، وتحرم المريض والمتعب من الراحة، والطالب من استذكار دروسه.. ولما قيل له: لماذا لا تكتب مقالا تهاجم فيه هذه العادات المزعجة؟ قال: نحن الآن فى عهد ملك طاغية، وحكومة مستبدة، فلو ظهر مثل هذا المقال فسوف تخرج صحف الحزب الحاكم لتقول إن الشيخ شلتوت يمنع تلاوة القرآن! ولا يبعد أن يصدق الناس ذلك، وقد أوصانا الرسول عليه السلام بأن ندارى سفهاءنا، لا أن نقاتلهم!.... ثم عاود الشيخ القول: إنى لأرثى للأموات أكثر من رثائى للأحياء، فما أحسب أحدا من الذين تزعجهم هذه الميكروفونات، يقابل هذا الإزعاج بالترحم على المرحوم!.. وعندما خرج أذناب فاروق على الناس بتقليعة نسبه الشريف المزعوم، عن طريق أمه نازلي، التى ثبت فيما بعد أنها من سلالة فرنسية لجدها لوالدتها قيل للشيخ شلتوت: كيف يسكت السادة العلماء عن هذه الكذبة الضخمة؟ فقال: إن للدين ربا يحميه من الإفك والأفاكين، وقد رأينا فى التاريخ حكاما ادعوا الألوهية، فذهبت ريحهم، ولن يبعد على فاروق أن يدعى الألوهية إذا طال به العهد، ولن يطول عهد رجل يفترى على الله كذبا..... ولم يطل العهد بفاروق بعدها وكأنما كان فضيلته يقرأ سطور الغيب!
كان شيخنا الجليل فى بيته أبا مثاليا عصريا يتخذ من أبنائه أخوة له ويحرص على تعليم البنات بشعار لا زواج قبل الحصول على الشهادة، وظل حتى النهاية يعطى الكبير قبل الصغير العيدية ومعها كيس بمب وينفخ البالونات للأحفاد.. وتصرح الابنة الصغرى فوزية بأن والدتها الهانم كانت تقوم على خدمة الزوج خدمة مثالية فتسأله عما حدث له فى يومه وتطمئن على أحواله فيجيبها بحب وبساطة بالغين، وكان بدوره يستشيرها فى كل شيء: ولم نسمعه يوما يتحدث عن امرأة سواها بل كان قوله الدائم لها (كل نساء الدنيا عندى هنا فى بيتى مجتمعات فى واحدة هى أنت).. وكانت هناك زائرات كثيرات من أوروبا وإفريقيا البعض منهن أتى ليشهر إسلامه على يد الوالد، والبعض للتعرف عليه، وكانت والدتى حريصة على حضور مثل تلك اللقاءات، وكنا نستمع معه إلى الغناء والموسيقى ونشاهد التليفزيون، ولازلت أتذكر ذلك الموقف عندما دخل والدى المنزل وكان عبدالوهاب يغنى فى الراديو أغنيته التى يقول فيها: أنا هيمان ويا طول هيامي، فأنصت والدى من بعيد قليلا ثم قال غاضبا: كيف يغنى عبدالوهاب مثل هذا الكلام. هل يعقل أن يغنى أنا طليانى وأبويا ألمانى اطلبوه لى فورا.. فضحكت وقلت له: انتظر يا بابا حضرتك سمعتها غلط، فهو يغنى أنا هيمان ويا طول هيامي، فضحك ضحكته الجميلة وهو يقول: كيف وصلت إلى أذنى هكذا؟!.. وكان والدى الشيخ يستمع إلى أم كلثوم وعبدالحليم وغيرهما من المطربين والمطربات دون أدنى حرج».
وجاءت فتوى الإمام الأكبر الشيخ شلتوت مفاجأة مفرحة للمسلمين فى مصر والعالم عندما أفتى ليس بإتاحة الغناء والموسيقى بكل ألوانها فحسب، ولكن بالدعوة إلى تعلمها ومعرفة أصولها، فالغناء والموسيقي: الأصل فيهما الحل، والحرمة عارضة، وحب اللذة غريزة فطرية فى الإنسان، والشرع ينظمها دون قمع ولا إفراط، وجميع ما قيل بشأن التحريم ضعيف، أو يتحدث عن توظيف الغناء والعزف فى المحرمات، وأضاف الشيخ شلتوت فى فتواه أنه قد نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء أنهم كانوا يسمعون ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمحرمات، وكان الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر فى القرن الثالث عشر الهجرى ذا ولع شديد بالسماع، وعلى معرفة بأصوله، ومن كلماته فى بعض مؤلفاته: من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطباع حمار!
كان الكاتب الساخر وليم باسيلى الجار المقابل لشقة الشيخ شلتوت فى عمارة الظاهر، والذى تحولت العشرة الطويلة الطيبة بينهما إلى صداقة متينة.. كانا يجلسان فى الشرفة معا لتبادل أطراف الحديث على بخار الشاى ودخان السجائر ليجرهما الحديث إلى ذكر الطلاق ومآسيه فيقول الشيخ: والله ما من شيء يحز فى نفسى وينقبض له قلبى مثل وقوع الطلاق.. إنه بيت يخرب، وأسرة تتفكك، وأطفال تتشرد ونفوس تتعقد، وبناء قائم يستحيل إلى كومة رماد.. ومن هنا جاءت فتواه الإنسانية بأن الإسلام ليس ذا شغف فى التفريق بين الرجل وزوجه، والطلاق بالثلاث لا يقع إلا واحدة رجعية، ويرد الرجل زوجه إليه بكلمة الرجعة أو بالمخالطة الخاصة، والحلف بالطلاق كعلى الطلاق لا يقع به طلاق أصلا.. والطلاق على فعل شيء أو تركه لا يقع به أيضا متى كان القصد منه التهديد والتخويف ولم يقصد الطلاق...
الشيخ المجدد الذى يأتى كل مائة عام كانت يده تصافح المرأة التى رفع القران من شأنها.. ودائما كان بيته مفتوحا لكل قاصد لا يرد أحدا، ويوم أن جاءته فتاة غرر بها شاب وتزوجها عرفيا دون إثبات، وضاعف من حرج موقفها أنها رزقت منه بطفل عجزت عن إثبات نسبه إلى أبيه الذى تنكر لها ولطفله، تبنى فضيلته قضيتها فأرسل فى طلب الشاب، وأخذ يبين له عواقب فعلته المنكرة، ومازال به حتى بكى الشاب بين يديه نادما، فأرسل فضيلته فى طلب المأذون حيث عقد زواجهما رسمياً فى منزله، ودفع فضيلته مهرها من جيبه، مضافا إليه رسوم وأتعاب المأذون، ودعا الحاضرين على الشربات احتفالا بالزواج واستكتب الشاب اعترافا ببنوة الطفل، وودعهما بعد أن نفح كلا منهما مبلغا من المال.. ويروى وليم باسيلى الكثير عن خفة ظل جاره الشيخ شلتوت الذى كان يصعد يوميا ثلاثا وتسعين من درجات السلم ليصل إلى مسكنه، وفى السنين الأخيرة قبل انتقاله لمصر الجديدة لم يكن يقوى على صعود السلم دون أن يقف بين كل طابق وآخر على البسطة ليسترد أنفاسه.. وكان الحال من بعضه بالنسبة لجاره الذى كان يطلق على نفسه اسم المجاور أسوة بطلبة الأزهر إذ لم يعد الآخر يقوى على ارتقاء السلم دفعة واحدة كما كان أيام زمان، ويحدث كثيرا أن يلتقيا فى هذه المحطات ليتبادلا الحديث بأنفاس مبهورة.. وكأنما كانت وقفتنا للحديث لا للاستراحة، ولكنه فيما يبدو لم يصبر طويلا على هذا النفاق الذاتى فقال لى ضاحكا: قل لى يا وليم.. نكونشى عجزنا واحنا مش واخدين بالنا؟!.. فأبدى له اعتراضى البالغ واحتجاجى على رأيه المُبالغ فيه، فيسرع لطمأنتى ضاحكا: لك حق.. احنا دلوقتى فى قمة الشباب لكن يظهر أن السلم هو اللى طول!!.. وينتقل الشيخ شلتوت بعدها إلى فيلته فى مصر الجديدة ليجلس ساعة العصارى فى البلكونة مرتديا جلبابه الأبيض وأمامه عدّة الشاى يرشف قدرا ثم يدعو كل من يمشى أمام البلكونة: اتفضل شاي.. حتى باعة الخضار كانوا يتوقفون تلبية لدعوته بعد أن يصب لهم الشاى بيده ليمضى معهم وقتا فى الدردشة منصتا لحديثهم الساذج بانتباه تام.. وعندما استرعى انتباهه ارتباك راهبات المدرسة المقابلة لسكنه الجديد وترددهن فى الحديث معه بادر بزيارة المدرسة لينشئ جسر الحوار والجوار ليغدو سكة للراهبات يسألنه فى بيته عن أمور الدين، ومكثت صورة الشيخ الجليل معلقة فى إطارها داخل المدرسة إلى جوار صور القساوسة والرهبان رمزا لسماحة الإسلام وروحه الودود..
شلتوت.. إمام التطوير والتجديد الذى أصبحت مشيخة الأزهر فى عهده تتجه إليها الوفود شرقية وغربية وعربية ومسلمة وغير مسلمة.. الذى سافر إلى الشرق الأقصى وزار الصين والفلبين واندونيسيا والملايو ونال الدكتوراه الفخرية من جامعات شيلى بأمريكا اللاتينية والجامعة الإسلامية بأندونيسيا، وجامعة سومطرة الشمالية، والجامعة الإسلامية بالفلبين، وزاره فى بيته هيلا سيلاسى إمبراطور الحبشة، ورئيس العراق عبدالسلام عارف، ورئيس اليمن عبدالله السلال و... الذى نال شهادة العالمية عام1918، وفى عام1927 انتقل للجامع الأزهر مدرسا عز عليه أن يجد الجامع الشريف متهاويا ضعيفا فنهض له ثائرا ناقدا نظامه داعيا لإصلاحه فتم فصله عام1931 ليعود إليه فى منصب الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر في13 أكتوبر1958 بعد مسيرة عمل وريادة عين فيها عضوا فى لجنة الفتوي، وأصغر أعضاء جماعة كبار العلماء عام1941، وعضوا فى مجمع اللغة العربية عام1946 ضمن عشرة أعضاء أطلق عليهم الأستاذ أحمد أمين العشرة الطيبة.. وبتوليه المشيخة قام برعاية قانون تطوير الأزهر الذى يجعل من جامعته بكلياتها الشرعية والمدنية المنبع الذى يلبى احتياجات المسلمين فى علوم الدنيا والدين..
وتنتهى حياة الشيخ الجليل بمأساة اقترفتها البيروقراطية واستبداد الاختصاصات التى أرادت لمنصب شيخ الأزهر أن يكون دينيا فقط ولا علاقة له بالسلطة.. فخاض معركة صامتة تحلى فيها بالصبر ضد العدوان على الأزهر وكتب بقمة الشجاعة والشموخ والكرامة المذكرات الشاملة الشارحة إلى عبدالناصر رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه على صبرى والتى ألحقها باستقالته من المشيخة في6 أغسطس1963.. الاستقالة التى ذيلها بأنه لن يقبل على دينه وكرامته السكوت على تضييع أمانة الأزهر مطالبا بإعفائه منها: «وليس أمامى إلا أن أضع استقالتى من مشيخة الأزهر بين أيديكم بعد أن حيل بينى وبين القيام بأمانتها.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».... ويسقط الشيخ صريع الشلل فى نصفه الأيسر، وعندما يشعر ضباط الثورة بالحرج أمام الزائرين الأجانب الذين يلحون فى طلب زيارته أشاعوا أنه اعتزل الحضور للأزهر بسبب مرضه، فما كان من الشيخ الثائر إلا إعلان سفره إلى قطاع غزة بالسيارة الجيب التى يتركها ليسير على قدميه ليتفقد أحوال أهلها.. ولا تمضى شهور أربعة بعد الاستقالة حتى يدخل شلتوت مستشفى الجمعية الخيرية لإجراء إحدى الجراحات.. وتنجح العملية.. ولم يكن الشيخ مرحا فى يوم من الأيام أكثر منه فى يومه الأخير بعد الإفاقة من البنج فقد ظل يداعب أحفاده، وقبل أن تصعد روحه إلى بارئها بدقائق كان حديثه إلى زواره عن معجزة الإسراء والمعراج الثابت بالقرآن والسُنّة.. ثم توقف فجأة.. أزمة قلبية طارئة.. حاول الأطباء إنقاذا بأنابيب الأكسجين لكن الروح كانت قد فاضت لبارئها.. الروح التى قال عنها شلتوت إنه لم يرد فى الدين نص صريح يشرح حقيقتها ويحدد وجودها لكنها كغيرها من حقائق الكون تركت للبحث البشرى يبحث عنها فيصيب أو يخطئ..
الشيخ محمود شلتوت أحد أفرع شجرة الإحياء والتجديد والاعتدال الإسلامى التى رواها فيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني، ووضع مشروعها التجديدى الإمام محمد عبده، وأضاءت بثمار الفكر المجدد لمحمد رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي، ومصطفى عبدالرازق، ومحمد أبوزهرة، وأحمد حسن الباقوري، وعبدالحليم محمود، وسليم البشري، ومحمد الغزالي.. شجرة كان خطابها الدينى فى زمانهم وما نتمناه فى زماننا التجديد لا التبديد.. خطاب لا يُفرغ الإسلام من محتواه الأصلى ولا يقدس أيضا اجتهدات العلماء السابقين.. خطاب للهداية لا للتكفير.. خطاب للتبشير لا للتنفير.. خطاب للدعاة لا للقضاة.. خطاب المرونة والحركة.. خطاب الوسطية.. خطاب لا يضيع فيه الدين بين جامد وجاحد.. خطاب يؤمن بأن من لم يتجدد يتبدد، ومن لم يتقدم يتقادم، ومن لم يتطور يذبل ويتساقط.. خطاب لا يحول الخطأ إلى خطيئة.. خطاب يعلو بالكيف على الكم، والاجتهاد على التقليد، والإقدام على الاتكال.. خطاب يؤسس ويرسخ ويؤصل حُرمة المال العام، وحقوق الآخر، وسنّة التنوع وثقافة التعدد ونبذ الفساد ومقاومة الاستبداد واحتواء الشباب ومفهوم الجهاد وحُسن الظن وحُرية الفن ومكانة الكتَاب وكرامة المواطن ومشاركة المرأة وأهل الخبرة عن المحاسيب أهل الثقة والنَسب.. خطاب يُقدم العقل على العاطفة ومصالح الأوطان على مصالح الجماعة.. خطاب لترسيخ العقائد الثابتة وتطوير التشريعات المتغيرة واستحداث المبادئ الموائمة لروح العصر وتحولات الزمن.. خطاب التجرد من الهوى كمثل ما قاله الإمام الشافعي: «ما جادلت أحدا إلا دعوت الله أن يجرى الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معى اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته».. خطاب من وحى الكون المتجدد للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى (560ه 638ه) فى عبارته الموجزة: «إن الموجود كله متحرك على الدوام دنيا وآخرة والعالم متبدل بتبدل الأنفاس».. خطاب استوعب فيه الشيخ شلتوت فى موسوعته الفقهية ثمانية مذاهب إتقاء للتعصب ودرءا للاختصام بين الاتجاهات المختلفة... وإذا ما كان القرضاوى قد أضاف بتهويماته فى نهايات عمره أن الشيخ شلتوت كان مخطئاً فى تقريبه وتوفيقه، فسيبقى لشلتوت الإمام الأكبر المجدد فضل السبق وشرف المبادرة.
[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.