في يوم مطير من أيام الشتاء القارس كنا علي موعد لزيارة العلامة وديع فلسطين, استقبلنا بتواضع العلماء وحنو الآباء بمنزله وهو يتكئ علي عصاه, تحكي جدران منزله الذي يدل علي التواضع والتقشف ورقة الحال قصة كفاح عمرها ثلاثة وتسعون عاما هي عمر هذا العالم, ليس له أي مورد رزق سوي معاش نقابة الصحفيين الذي يتقاضاه باعتباره أقدم الأعضاء, إذ إلتحق بها عام1951, يقبع في منزله وحيدا مع قطته التي تؤنس وحدته.. هكذا يعيش المترجم والناقد والمؤلف الذي قدم للحياة الثقافية ما يربو علي الأربعين كتابا في الأدب والإقتصاد والسياسة وعلوم الصحافة. في هذا الحوار يحكي وديع فلسطين سطورا من قصة كفاحه, التي لم يخطط لها ولكن القدر هو الذي رسمها: حدثنا عن نشأتك؟. ولدت في أخميم بسوهاج لأن جدي لأمي كان يعمل باشكاتب في الحكومة وكان كثير التنقل بينما أسرتي تنتمي إلي مدينة قنا, وكان والدي يعمل مراجع حسابات في الحكومة السودانية, نشأت في أسرة متواضعة وفي سن السابعة توفي والدي وترك لنا معاشا بسيطا أنا وأخواتي الخمسة, وبعدما أنجزت الدراسة الابتدائية والثانوية في المدرسة الإنجليزية التحقت بالجامعة الأمريكية قسم التوجيهية, وكانت ميولي علمية خاصة الكيمياء وكنت أتمني أن التحق بمدرسة الصيدلة ولكن لارتفاع مصاريف المدارس العلمية والتي لا تستطيع الأسرة تحملها, التحقت بالجامعة الأمريكية قسم صحافة وكانت مصروفاتها18 جنيها كنت أدفع عشرة جنيهات ويتم التجاوز عن الثمانية مقابل عملي مساعدا لأمين المكتبة وتخرجت عام1942. وكيف التحقت بجريدة الأهرام ؟ تقدمت للعمل بجريدة الأهرام فور تخرجي بناء علي تزكية من مدير التحرير آنذاك فريد بك شقير, وعملت في إدارة التوزيع منذ عام19451942 حاولت خلالها الانتقال إلي إدارة التحرير الصحفي دون جدوي وكانت الأهرام في ذلك الوقت توزع ما يقرب من الثلاثين جريدة ومجلة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية واليونانية, وأصبحت متخصصا في التوزيع لدرجة أنهم أطلقوا علي لقب مفتش توزيع, ثم عرض علي العمل بجريدة المقطم كصحفي فتركت الأهرام. هل انقطعت علاقتك بالأهرام بعد تركها ؟. كانت لي علاقات طيبة وكانوا يستعينون بي في بعض الترجمات, فعندما رأس عزيز ميرزا رئاسة التحرير طلب مني ترجمة ثلاثة أعداد خاصة في مجلة الأهرام الاقتصادي عدد عن اليابان والآخر عن ألمانياالغربية والثالث عن اندونيسيا, وفي فترة عبد الله عبد الباري كلفني بكتاب من ألف صفحة باللغتين العربية والإنجليزية لمسابقة الكوكب الذهبي, ولما تولت نوال المحلاوي مركز الأهرام للترجمة وهي كانت إحدي تلميذاتي بالجامعة الأمريكية هي وجاكلين خوري وأمينة شفيق, وكانت تصفني بالأب الروحي للمركز, نشرت لي كتابين الأول عن أصول علم الاتصال, والآخر مختارات من الشعر المعاصر. وكتبت ثلاثة مقالات بإمضائي في الأهرام الأول في الخمسينيات عن تطور صناعة البترول في الشرق الاوسط, والثاني عن الترجمة والثالث عن مستقبل الثقافة في مصر, إلي جانب بعض المقالات في مجلة نصف الدنيا بناءا علي طلب سناء البيسي. بمن تأثرت في عملك الصحفي ؟. عملي في جريدة المقطم بين عامي19521945 جعلني أتعامل مع ثلاثة من كبار باشاوات الصحافة الأول فارس باشا نمر وهو من أصحاب الجريدة الثلاثة, وخليل باشا ثابت الذي عمل رئيس تحرير لمدة أربعين عاما, والثالث كريم باشا ثابت وهو الذي ألحقني بالجريدة, ولكنه كان مشغولا بالملك حيث كان مستشارا له لذلك لم أتأثر به كثيرا, ولكني تأثرت بخليل باشا فكان يوجهني ويرشدني, وفي تلك الفترة تعرفت بالشاعر خليل مطران وكان آخر الباقين علي قيد الحياة من الثلاثة الكبار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومطران, كما تعرفت أيضا بالعالم نيكولا الحداد, تأثرت بهؤلاء جميعا وكان لهم الفضل في الرعاية والتوجيه. زاملت ربابنة الفكر, وأساطين السياسة والنقد في مصر والعالم العربي.. ولك صلات واسعة بالنخبة الساطعة في أفق النهضة العربية...كيف ومتي تعرفت علي كل هؤلاء؟. مهد لي عملي بجريدة المقطم اتصالات واسعة جدا بالأدباء والكتاب ليس في مصر فقط ولكن كل البلاد العربية والمهاجر, وكانت تصلني رسائلهم وكتاباتهم من بلاد كثيرة, وتعرفت من خلالها علي شعراء المهجر في البرازيلوالأرجنتين وأمريكا الشمالية وكثير من البلاد العربية وتوطدت صلتي الأدبية والشخصية بهم, حتي إن كثيرا منهم كتب في قصائد شعر. وكنت احتفظ بهذه الرسائل منذ أربعينيات القرن الماضي والتي وصلت إلي أكثر من عشرة آلاف رسالة, والآن ذهبت مع مكتبتي إلي بيروت يحتفظون بها بإسمي ويقومون بفهرستها وتصنيفها كي يستفيد منها الباحثون والأكاديميون. تنبأت لنجيب محفوظ بأن أدبه سيصل للعالمية..لماذا؟ وكيف تعرفت عليه ؟. عندما تخرجت الجامعة الأمريكية كانت هوايتي الترجمة, وقمت بترجمة مسرحية الأب لأديب سويدي, وفكرت في نشرها, فوجدت جريدة الأهرام تنشر إعلانات يومية علي صفحاتها الأولي لرواية رادوبيس لنجيب محفوظ والناشر مكتبة مصر الفجالة بثمن عشرة قروش, وفي العدد الثاني تعلن عن رواية ويك عنتر لعادل كامل أيضا بثمن عشرة قروش. فتوجهت لمكتبة مصر بالفجالة وقابلت صاحبها سعيد جودة السحار وسألت عن لجنة النشر ومن المسئول عنها قال لي إنه أخاه عبد الحميد وإذا أردت مقابلته تعالي يوم الثلاثاء احضر الاجتماع, وبالفعل حضرت يوم الثلاثاء ووجدتهم مجتمعين عادل كامل, وأحمد باكثير, ونجيب محفوظ وغيرهم وعرفني بهم, وأخذ المسرحية ونشرها, وتوطدت صلتي بهم وكنت أتردد عليهم كل ثلاثاء وعرفت أنهم شبان نابهين وبدأت أكتب عنهم, وكتبت عن نجيب محفوظ خمسة مقالات, وعن روايته رادوبيس قلت: لو قدر لهذه الرواية أن تترجم إلي اللغات الأجنبية فلعلها تقف علي نفس المستوي مع تلك الروايات العالميةوكان هذا نابعا عن حس أدبي وإعجاب بالرواية, وقد اعتبروا هذه الكلمات نبوءة لنجيب محفوظ. وعندما حصل محفوظ علي جائزة نوبل واحتشد في منزله العشرات من الصحفيين لم ينس هذه الكلمات. ورغم أنني لم أكن من هواة الجلوس علي المقاهي مع الحرافيش لكن كانت صلتي به قوية. أدب المهجر أخذ منك اهتماما كبيرا.. في رأيك لماذا أندثر هذا الأدب ؟وهل هناك محاولة لإحيائه؟. في اعتقادي أن أدب المهجر اندثر دون رجعة لأن الأدباء والشعراء المهاجرين كانوا نخبة مرموقة, ولم يتفقوا فيما بينهم بأنهم سيسافرون إلي المهجر ويصبحون شعراء, وإنما المصادفة الغربية هي التي جمعتهم وجعلتهم مجموعة مرموقة من الشعراء, وقلة قليلة منهم هي التي عادت لارض الوطن إما مستقرين وإما زائرين. وحاليا لم يوجد أحد لديه هذه الهمة للسفر إلي البرازيل أو الأرجنتين أو بوليفيا أو غيرها لنظم الشعر, كما أنهم قاموا بإنشاء مطابع خاصة بهم لطباعة تلك الأشعار باللغة العربية وقد اندثرت هذه المطابع أيضا, والآن لا يوجد ما يشجع لإحياء هذا النوع من الأدب. وأنا كنت احتفظ بكل دواوين الشعراء المهجريين بإهداء منهم لأنني كنت علي علاقة طيبة بهم جميعا وهذه المجموعة التي كانت تضمها مكتبتي هي أكمل مجموعة موجودة في العالم. شاركت في عمل العديد من الموسوعات, ولكن موسوعة وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره والتي سجلت فيها أدق تفاصيل علاقاتك بنحو مائة من الأعلام في مصر والبلاد العربية والمهاجر وديارات المستشرقين, وتعد علامة فارقة في أدب التراجم.. فما هي الظروف التي جعلتك تقدم عليها ؟. هذه الموسوعة عبارة عن مجموعة مصادفات, تلقيت اتصالا هاتفيا من شخص لا أعرفه يدعونني للكتابة في جريدة الحياة اللندنية, فقلت له أنا لا أكتب في السياسة, فقال لا نريدك أن تكتب في السياسة.. أكتب في الأدب, واقترح علي الكتابة عن الشاعر رمزي بشر فارس لأنه غير معروف, وأنا كنت علي علاقة طيبة به وكان جاري عندما كنت أعيش في جاردن سيتي وكتبت عنه مقال واخترت عبارة حديث مستطرد ثم طلبوا مني الاستمرار في نفس الاتجاه وكتبت سلسلة من المقالات عن العديد من الشخصيات وصلت ما يقرب من الستين مقالا, دون أن أعرف الشخص الذي حدثني, ولا رئيس التحرير جهاد الخازن, إلي أن تغير رئيس التحرير وتغيرت المعاملة فتوقفت. بعدها فوجئت بناشر سوري يحدثني وقال إنه يحتفظ بكل المقالات التي نشرت في الجريدة وطلب أن ينشرها وأضفت إليها عددا من المقالات حتي وصلت تقريبا مائة مقالة, ونشرها في جزءين, وكانت مفاجأة كبيرة لي لأنني لم أتوقع أن يصدر بهذه الفخامة, وقد لاقي استحسانا كبيرا ورواجا خاصة في الدول العربية, وكتب عنه الشاعر الكبير فاروق شوشة مقالين بجريدة الأهرام كتبت في كل فنون الكتابة المقال والأدب والسياسة والاقتصاد وغيرها إلي جانب الترجمة.. فما هي أقربها إلي نفسك ؟ الترجمة بالنسبة لي كانت طوق النجاة لأنني مررت بفترات طويلة بلا عمل, فكانت الترجمة ملاذي الوحيد لدرجة أنني أصبحت في إحدي الفترات كبير مترجمين لقضايا التحكيم الدولي, خاصة في قضية أوناسيس والتي كنت كبير مترجميها, فالترجمة اعتز بها لأنها أنقذتني من السؤال. هاجرت بقلمك من مصر إلي دمشقوبيروت ولندن وغيرها.. والمتتبع لمقالاتك يلمح فيها خفة الظل والجدية.. فهل هذا يعكس جانبا من شخصيتك؟أم أنه أسلوب في الكتابة لجذب القارئ ؟, اسلوبي غير مصطنع أنا أكتب ما أحسه فقط بغض النظر عن رد فعل القارئ, وأكتب بالأسلوب الذي أستسيغه, ولم أراجع مقالاتي, ولكن مجرد الانتهاء منها أبعث بها إلي المطبعة. وكتبت مجموعة مقالات في مجلة الأديب التي كانت تصدر في بيروت بعنوان الأدب والأحذية ولهذه المقالات قصة طريفة, عندما كان صدام حسين يقيم مهرجان المربد للشعر ويدعو فيه كل الشعراء العرب, ومن ضمن المدعوين في هذا المهرجان صديقي الشاعر نزار قباني وألقي قصيدة قال فيها: إذا أصبح المفكر بوقا يستوي الفكر عندها والحذاء أنا حريتي وإن سلبوها تسقط الأرض دونها السماء وقال هذا في حضرة صدام حسين وكأنه يقول للشعراء لا تكونوا بوقا لصدام حسين, فأهداني هذا إلي كتابة سلسة من المقالات في مجلة الأديب حول هذا الموضوع وبحثت عن كل ما يخص النعال في الأدب القديم والحديث وأضيفها إلي المقالات وأكرر مقولة نزار قباني بهدف أن يحفظ الأدباء والمفكرون هذا الشعار فلا يكونوا بوقا لأي طاغية. واستمرت هذه المقالات لعدة سنوات تلقيت عنها رسائل كثيرة من القراء والأصدقاء يضيفون إليها ويعلقون عليها. رغم كرهك للغة العربية فإن لك إسلوبا رشيقا وشيقا ؟. لي حكاية مضحكة مع اللغة العربية, حيث كنت كارها لها في المرحلة الدراسية بسبب مدرس اللغة العربية علي عكس مدرسة اللغة الإنجليزية التي كانت تحببنا فيها. وبعد تخرجي وعملي بالصحافة بدأت أهتم واعتني بها من خلال قراءة كتابات الأدباء محمود تيمور, صديقي الذي كان يكتب بالعامية ثم تحول إلي الفصحي فأجاد, والأديبة وداد سكاكيني وكانت من كبار الأديبات السوريات, وكان لها أسلوب شيق, وكنت اقرأ كثيرا, ومع الممارسة أتقنت اللغة العربية. وكان اسلوبي في الكتابة السبب في أن مجمع اللغة العربية في دمشق تنبه لي دون أن اذهب إلي دمشق وفوجئت بتعييني عضوا مراسلا بالمجمع عام1989, بعدها بعامين فوجئت بمجمع اللغة العربية في الأردن يختارني عضوا مؤازرا مع أنني لم أكن قد زرت الأردن بعد. فكان هذا نتيجة اجتهادي الشخصي في تعلم اللغة العربية وإتقانها. من هم أصدقاؤك المقربون الذين لم يحصلوا علي التقدير الأدبي في حياتهم ؟. العلامة الأديب الراحل حسين مجيب المصري وهو أحد علامات الآداب الشرقية قام بالتأليف والترجمة في هذه اللغات التي كان يجيد اكثرها ولم يشعر به أحد لانه كان غير اجتماعي, ورغم انه حصل علي العديد من الاوسمة والنياشين في خارج مصر فإنه لم يحصل علي اي تكريم في الداخل. أيضا الشاعر إبراهيم ناجي كان شاعرا عظيما ولكن الثورة ظلمته بوضع اسمه في قائمة التطهير, وكان نتيجة ذلك انه فقد وظيفته كمدير الإدارة الطبية بوزارة الأوقاف, وتفرغ للعمل بعيادته الخاصة في شبرا, وانتابته حالة من الاكتئاب وزارني قبيل رحيله بأيام وكتب لي بعض أبيات من الشعر, وبعدها بأيام سقط في عيادته أثناء الكشف علي أحد المرضي., وأيضا محمد مصطفي خفاجي كان متخصصا في الأدب رغم أنه أزهريا, وكان رئيس رابطة الأدب الحديث وألف أكثر من مائة كتاب وهناك كثيرون. بعد خمس سنوات من ثورة25 يناير.. كيف تري المستقبل ؟. لا شك أن الأوضاع السياسية والاقتصادية أفضل بكثير من الفترات السابقة ونلمس المجهود المبذول والإنجازات وأهمها مشروع قناةالسويس الجديد, إلي جانب المشروعات الاقتصادية الكبري التي نتمني أن تتحقق علي ارض الواقع, فالمستقبل مشرق بإذن الله وأنا متفاءل لأننا تخلصنا من حكم محمد مرسي لأنه لو استمر لعاد بنا إلي العصور الوسطي.