ننشر أسعار الذهب في مستهل تعاملات الإثنين 3 يونيو    انخفاض مبشر في أسعار الفراخ اليوم 3 يونيو.. والبيض يقفز فجأة    حدث ليلا.. هجوم عنيف على سوريا وحرائق في إسرائيل وأزمة جديدة بتل أبيب    كلاوديا شينباوم.. في طريقها للفوز في انتخابات الرئاسة المكسيكية    حريق هائل يخلف خسائر كبيرة بمؤسسة اتصالات الجزائر جنوب شرق البلاد    كيفية حصول نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بني سويف    تفاصيل الحالة الجوية اليوم 3 يونيو.. الأرصاد تكشف الجديد عن الموجة الحارة    هل يجوز حلق الشعر في العشر الأوائل من ذى الحجة؟.. الإفتاء تجيب    تراجع أسعار النفط رغم تمديد أوبك+ خفض الإنتاج    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 3 يونيو    بينهم 3 أطفال.. استشهاد 8 فلسطينيين في قصف إسرائيلي بخان يونس    متى تفتح العمرة بعد الحج ومدة صلاحية التأشيرة؟.. تفاصيل وخطوات التقديم    استشهاد 8 بينهم 3 أطفال فى قصف إسرائيلى على منزلين بخان يونس    لإنتاج الخبز.. التموين: توفير الدقيق المدعم ل30 ألف مخبز يوميًا    أفشة: هدف القاضية ظلمني.. وأمتلك الكثير من البطولات    ارتبط اسمه ب الأهلي.. من هو محمد كوناتيه؟    أفشة يكشف عن الهدف الذي غير حياته    "لقاءات أوروبية ومنافسة عربية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    الغموض يسيطر على مستقبل ثنائي الأهلي (تفاصيل)    أمين سر خطة النواب: أرقام الموازنة العامة أظهرت عدم التزام واحد بمبدأ الشفافية    التعليم: مصروفات المدارس الخاصة بأنواعها يتم متابعتها بآلية دقيقة    متحدث الوزراء: الاستعانة ب 50 ألف معلم سنويا لسد العجز    السكك الحديد: تشغل عدد من القطارات الإضافية بالعيد وهذه مواعيدها    حماية المستهلك: ممارسات بعض التجار سبب ارتفاع الأسعار ونعمل على مواجهتهم    أحداث شهدها الوسط الفني خلال ال24 ساعة الماضية.. شائعة مرض وحريق وحادث    عماد الدين أديب: نتنياهو الأحمق حول إسرائيل من ضحية إلى مذنب    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلين شرق خان يونس إلى 10 شهداء    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب "إيشيكاوا" اليابانية    «مبيدافعش بنص جنيه».. تعليق صادم من خالد الغندور بشأن مستوى زيزو    خوسيلو: لا أعرف أين سألعب.. وبعض اللاعبين لم يحتفلوا ب أبطال أوروبا    أفشة ابن الناس الطيبين، 7 تصريحات لا تفوتك لنجم الأهلي (فيديو)    سماع دوي انفجارات عنيفة في أوكرانيا    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    «زي النهارده».. وفاة النجم العالمي أنتوني كوين 3 يونيو 2001    أسامة القوصي ل«الشاهد»: الإخوان فشلوا وصدروا لنا مشروعا إسلاميا غير واقعي    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات الأهلية.. ويوجه مشرفي الحج بتوفير سبل الراحة    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    تكات المحشي لطعم وريحة تجيب آخر الشارع.. مقدار الشوربة والأرز لكل كيلو    إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    جهات التحقيق تستعلم عن الحالة الصحية لشخص أشعل النيران في جسده بكرداسة    منتدى الأعمال المصري المجري للاتصالات يستعرض فرص الشراكات بين البلدين    العثور على جثة طالبة بالمرحلة الإعدادية في المنيا    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    مصرع 5 أشخاص وإصابة 14 آخرين في حادث تصادم سيارتين بقنا    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اهلا انا
شتاء ساخن يمتلك ربيعا صاخبا
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 01 - 2016

باريس بالنسبة لي ليست هذه المدينة المزدحمة بالخوف من انفجار هنا أو طلقات رصاص من هناك. باريس بالنسبة لي توقظ ذاكرة أول زيارة لها في منتصف ديسمبر قديم1963, وطبعا لا أنسي انزعاجي من اتساعها; ولا جمال تماثيلها, وأقمت بفندق صغير منخفض السعر لكنه يقع بجوار منزل برجيت باردو صاعقة الجمال في ذاك الزمان.
وشاءت الظروف أن أحظي بدعوة لحضور المؤتمر الصحفي السنوي لرئيسها المعجزة بالنسبة لفرنسا المعاصرة الجنرال ديجول وفي الطريق قصر الإليزيه بدأت ألتفت إلي أن شوارعها مزدحمة بقبلات الشبان والشابات. وتذكرت أني رأيت ذلك أيضا في الحي اللاتيني; حيث توجد أمم متحدة بجنسيات متنوعة متعددة; ولغة التخاطب هي القبلات فقط فيمكنك أن تري الشاب القادم من شمال أفريقيا في مساء الجمعة وهو يلتقي بصديقته الفرنسية ويذوبان في حوار غير مزعج للسلطات. وسمعت رجل الشرطة الفرنسي يتمتم بكلمات عرب أنجاس إقتربت منه أنا الذي يعرف من الفرنسية أقل الكلمات لماذا السباب ؟. وإندفعت من فهمه دفقات من كلام سريع متتابع, أضحك صديقتي التي تتقن الفرنسية, وأخذت تترجم لي أقواله اللعنة علي العرب.. ظننا أننا طورناهم عندما دخلنا بلادهم.. لكن هاهم قد هجروا بلدانهم وجاءوا مع مشكلاتهم إلي باريس.. كأنهم ينتقمون من اجدادنا الذين كانوا ينظرون من خلال فوهات الجبال الفاصلة بين فرنسا والأندلس; لنري أعاجيب علمائهم الذين ينظمون الري والضوء, ويعيشون في نظافة لم نكن نعرفها.. الآن جاءوا بقاذوراتهم إلينا. منهم من يحتضن إمرأة جميلة, لكنهم افضل من أهل أفريقيا الفرنسية, فهؤلاء يأتون إلي باريس من أجل غواية الأرامل والمطلقات أو المختلفات مع ازواجهن, ويلعبون دور أدوات إمتاع النساء بما يجعل الرجل الفرنسي يشعر بالضألة أمام قدرات هؤلاء الذين لا يحملون في رؤسهم أدني الهموم. وتصرف علي غوايتهم عشرات النساء.
قلت للشرطي لا تشغل بالك بقبلات هنا او هناك فهم يرصفون طرق الاطمئنان بتلك القبلات وعلي فكرة.. قديما جاء نابليون إلي مصر وتزوج كثير من قادته بمصريات. وهكذا يمكنك أن تعلم أن اختلاف موقع الميلاد يخلق جاذبية خاصة سواء عند الرجال أو عند النساء; فتحدث الجاذبية المشبوبة التي لاتستوعبها كما لا يستوعبها جزء من ضمير ديجول; فهو في العلن يقدم الاحترام للعرب; لكنه في جلساته الخاصة يتحدث بسخرية مريرة عن العرب والأفارقة.
كنت أعلم ذلك حتي وأنا أسمع إجابته علي سؤالي له في أول مؤتمر صحفي انعقد في نهاية ديسمبر1963, قال: عودة العلاقات مع مصر هو عودة للتواصل مع الحضارة الأم, وعلاقاتنا العربية لابد أن تزدهر بعد استقلال الجزائر. وإذا نشب صراع بين العرب وإسرائيل سأقف ضد من يطلق الرصاص أولا.
أما مشاكلك أيها الشرطي لأن الأرامل والمطلقات وكبيرات العمر يعشقن الشباب الأفريقي, فتلك مسئولية الرجال الفرنسيين الذين لا يجيدون عشق نسائهم فيبحثون عن عشاق خارج دائرة الفرنسيين. قلت ذلك وترجمته صديقتي ودلفنا إلي أول مقهي في شارع سان ميشيل. ولم نسمع من الشرطي ردا.
وفوجئت بالمقهي بمجموعة شباب يكتبون لافتات ضد الولايات المتحدة التي كانت غارقة إلي أذنيها في حرب فيتنام, كان الشباب يكتب عبارة واحدة لا تقتلوا قبلاتنا في فيتنام. وأخذت أضحك من العبارة, فالفيتناميون هم من يتلقون قنابل ورصاصات الأمريكيين; فلماذا يتظاهر طلبة باريس ضد الولايات المتحدة. ويبدو أن طالبا عربيا كان يسمع كلماتي مع صديقتي, فرد علي كلماتي أنت مصري تستمتع بحكم رجل مستقبل هو عبد الناصر.. لكنك لا تنتبه إلي أن أمريكا تبحث عن حرب بعد إنتهائها من أي حرب, فبعد أن إنتهت من حرب كوريا جاءتها علي طبق من فضة قصة مغالتها في محاربة الشيوعية, فقررت أن تحاربها في فيتنام. رغم أن الدرس الفرنسي أمامها, ففي فيتنام رجل عجوز هو هوتشي منه, ومعه شاب ممتلئ بالتواضع والحكمة والقدرة علي القتال إسمه الجنرال جياب, وهما قد أذاقا فرنسا ويل الهزيمة في معركة ديان بيان فو, إسم قلعة هناك, وجاء الدور علي الولايات المتحدة, فأمريكا لاتبحث عن إنتصار, ولا تتورع في قبول الهزيمة.. فالمهم عندها هي الحرب. لأن الحرب يعني تطوير السلاح وتجارته ودوران مصانع السلاح لمدة أعوام ولا مانع من هزيمة ما دام هناك تشغيل للمصانع وخروج أسلحة منها إلي دول العالم بفضل إنتصارات الولايات المتحدة في السينما فبعد إنتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بدأت أمريكا الدعاية لنفسها عبر أفلام هوليود علي أساس أنها الدولة التي لاتقهر, فهي من ألقت القنابل الذرية علي اليابان وهي من هزمت هتلر ولم يعد يهمها من أي حرب نتيجتها, بل الدعاية التي ستروج لبضائعها وطبعا تضغط الحرب علي علمائها فيطورون الأسلحة بتقدم علمي مثير وتقوم أفلام هوليود بتصوير المقاتل الأمريكي ككائن لا يمكن هزيمته. وحرب فيتنام ستنتهي بهزيمة أمريكا, لأن أحدا علي كوكب الأرض لا يعلم سببا لتلك الحرب. وعندما لا يعلم المقاتلون سبب الحرب تسهل هزيمتهم ولو بعد فترة من الوقت
..................
كلما نزلت إلي باريس, فشارع سان ميشيل هو هوايتي ففيه أمم متحدة تطلب العلم من السربون, وقبلات الأولاد والبنات هناك تؤكد لي خطأ الفيلسوف الذي أشعل نصف القرن العشرين الأخير بوقوفه ضد أي ظلم بشري وهو من وصف إحتلال فرنسا للجزائر بأنه ليس حربا, لكنه جعل من فرنسا إسما لمرض نفسي. وعندما جاء لزيارة القاهرة ومعسكرات اللاجئين الفلسطينيين بفلسطين, إندهشت رفيقته سيمون دي بوفوار من أن الطفل الفلسطيني لم يعرف طعم الشيكولاته يوما, فوكالة غوث اللاجئين لا توزع الحلوي. وطبعا ضاع كل أثر للتعاطف مع العرب أو فلسطين عند سارتر, لأن عشيقته اليهودية الصغيرة تطعمه من أنوثتها كل مساء ما ينسيه أي شيء يغضبها, كما أن سيمون دي بوفوار غارقة أيضا في علاقة حميمة مع اليهودي كلود لانزمان مدير تحرير المجلة التي يصدرها سارتر. ولأن سارتر لم يتزوج سيمون, لذلك لم يجد حرجا من عشق فتاة تصغره بمالا يقل عن أربعين عاما. ولان سيمون دي بوفوار ترفض أن تنام وحيدة علي سرير من أشواك غيرتها, كان عندها كلود لانزمان بارعا أيضا في عشق كبيرات العمر, فما يفصله عن سيمون دي بوفوار قرابة العشرين عاما. وعندما وصل ذلك إلي ديجول قال لحارس له لماذا أخاف وحدي من زوجتي التي يناديها الفرنسيون طنط إيفون ؟ لماذا لم أكن فيلسوفا مثل سارتر لأحيا كما أريد ؟ يحكي الحارس في مذكراته أن ديجول كان ينطق بهذه الكلمات علي سبيل الدعابة, فوفاؤه لطنط أيفون يفوق الوصف, ولم يكن يخاف منها إلا في لحظات إستيقاظه ليلا وفتحه للثلاجة وإلتهام أطعمة يحرمها عليه الأطباء. ويحتقر أي حديث عن قائد جيوش الحلفاء إيزنهاور الذي وصل إلي منصب رئيس الولايات المتحدة, لأنه إتخذ من سكرتيرته عشيقة, وكأن ديجول إمتلك ناصية العفاف رغم علمه بأن أغلب الساسة الفرنسيين يفخرون بتعدد علاقاتهم خارج الزواج.
..................
وجاء موعد مغادرتي لباريس إلي الولايات المتحدة.
وكلما اقتربت من أي سفر فأنا أذكر نفسي بأن حياتي فيها قصص متعددة, وأي مغامرة يمكن أن تحقق لي متاعب لا أرغب فيها. وأضحك لنفسي متذكرا قولي لمن أحببت عندما أنظر في عينيك أتمني أن أصبح مجرد كائن صغير يركب قاربا في دبوس الأبرة لأسبح في أعماق حنانك فكانت تقول لي يكفي أن تقول: أحتاجك لتجدني. أخذت أضحك لنفسي لأني قلت أحتاجك ولكنها تركت لي رسالة مع بوابة بيتها الباريسي عندي عقد عمل في السنغال. سأقضي هناك عدة شهور وطبعا كان رقم تليفونها السنغالي موجود, ومن مطار شارل ديجول طلبتها في دكار لتقول لي مندهشة: أين أنت ؟. أنا في باريس وأغادرها بعد ساعة, فقط أردت أن أقول لك أنك غير قادرة علي الوفاء بما تعدين به. قلت لي يكفي أن تقول أحتاجك حتي تجدني. ها أنا ذا أحضر إلي باريس وأحتاجك ولا أجدك. قالت: قدرك يعاند قدري. لامفر من قبول هذا العناد. لكن لا تسمح لنفسك بخيانتي. ضحكنا وفي آخر ضحكاتنا خيوطا من دموع. وأسرعت إلي طائرتي.
عندما ارتفعت الطائرة, لم أكن أتصور أني سألتقي بعيدا ب عين الأبرة, هذا العاشق الجاسوس الذي لم يمتلك في أي يوم من الأيام أية مشاعر, بل اكتفي طوال حياته بتقديم معلومات عسكرية عن بريطانيا لألمانيا, لكنه في إحدي رحلات جمع المعلومات قابل هذا الاحتياج العطشان مجسدا في امرأة أكثر من ناضجة, لكنها تعيش مع زوج عنين فقد رجولته في حادث طائرة عسكرية. واكتفت المرأة برعاية الزوج والسهر علي الابن, وتركت أنثوتها تتجمد إلي أن انفجر فيها بركان الشوق الحسي عندما فتح الجاسوس عليها الحمام بالصدفة فوجدها كما خلقتها السماء; فتماسك الإثنان إلي ان يلتقيا بجنون في نفس الليلة بعناق أهوج وافترقا ليعرف كل منهما عن الآخر حقيقة واضحة وهي أن كلا منهما عدو للآخر ويجب أن يقتله. فالعاشق هو جاسوس ألماني رغم جنسيته الإنجليزية, والمعشوقة هي إنجليزية وزوجة طيار فقد القدرة علي المشي بعد أصابته شظية حيث كان يعمل في مطار سبق وقد درسه هذا الجاسوس وهو من اخبر الألمان بتفاصيله.
قلت بصوت مسموع كل منا عدو للآخر ويجب أن يقتله!; فعلقت جارتي التركية التي تملك من الجمال ما يفوق جمال المرأة الإنجليزية التي تمثل أمامنا علي الشاشة, ونحن في الطائرة نعبر الأطلنطي.: هل تعتقد أن كلا منا عدو للآخر ويجب أن يقتله؟ أنا تركية الأصل أمريكية الجنسية وليس بيني وبين المصريين أي سبب للكراهية.
قلت: لم أكن أعرف أن الولايات المتحدة تخبئ نفسها في أجساد بشر من بلدان أخري. ما الذي جعلك أمريكية الجنسية؟
قالت: يحدث لي ما يحدث لكل إنسان في هذه الدنيا, يريد أن يصرخ بأعلي صوت, وقد صرخت بأعلي صوتي في بلدي فكان مصيري مرة السجن, ومرة ثانية التفوق في الجامعة, ثم بعثة إلي أمريكا. هناك اندهشت بمدي الحرية من القشرة الخارجية فقط, وتزوجت من أمريكي أعلن إسلامه من الظاهر فقط, وعشت العذاب الكبير: الحياة داخل طاحونة, الزوج يعود كل مساء خائفا من الفصل من العمل, وأنا أخاف من إنجاب الأطفال في حياة غير مستقرة. كل شئ هناك يبرق وكأنه يقدم لك التعزية في فقيد غال عليك, هذا الفقيد الغالي هو أنت نفسك. نعم, أحسست أن زوجي لم يعد رجلا مكتملا من فرط الخوف علي وظيفته. وعندما ازداد خوفه عن الحد, ذهبنا إلي الطبيب النفسي ليبحث الحالة. قال الطبيب النفسي تلك الكلمات اللامعة: أقتل خوفك بنفسك. حاول أن تدعو رئيسك علي العشاء ومعه زوجته. اندمج معه في حياة اجتماعية وستكتشف أنه إنسان وليس مجرد وحش كاسر يخرج لك في الأحلام ليثير رعبك. قلت للتركية الحسناء: لا أعتقد من شكلك الخارجي أن من يحيي معك تحت سقف واحد يمكن أن يخاف شيئا. فأنت أنوثة فارهة يمكنها أن تحول كل طفل إلي رجل لينال من ثمار شجرتك إطمئنانا وثقة بالنفس عندما يدخل عالم الأمان معك. ضحكت التركية الجميلة وكانت ضحكتها نوعا من النور الذي يلمع في سماء النفس, وتظلله سحابات غائمة قليلا, ويعود النور صافيا مرة أخري. سمعت من ضحك النساء كثيرا,لكن ضحكة هذه المرأة كانت كنهر رقراق يمر عبر غابة لم يدخلها أحد من قبل. قالت التركية بعد هذه الضحكة الجميلة: أنت عربي المزاج, حسي الرغبات, تحلم بالزواج من أربع نساء ولا تستطيع, لكن عليك أن تعيش في أمريكا قليلا وستجد رجولتك قد تيبست. قلت: أنا لا أنكر أنني عربي المزاج, ولا أنكر أنني أحب المرأة حتي أذوب فيها فلا أجد نفسي. ولم أفعل شيئا في حياتي تقريبا إلا من أجل حب امرأة. عملت في الصحافة لأني احب امرأة, فهمت في السياسة لأني أحب امرأة أعدت اكتشاف إيماني لأني أحب امرأة. أطير الآن إلي أمريكا لأن قلبي امتلأ بالشروخ, لأني أحب امرأة. وسوف أدخل مستشفي لإجراء فحوص طبية. وأعرف كم حفر الحب في قلبي من أخاديد الشيخوخة, فكيف تجعل أمريكا من رجولتي شجرة يابسة خاوية المعني؟ أنا لا أصدق ذلك! قالت: ما دمت لم تحضر إلي أمريكا لتعيش إلي الأبد فلا تغضب واطمئن, لن تتيبس. إن أمريكا تخصي رجالها, وتمنع الإناث فيها من الخصوبة, وتعيش علي حرف مقصلة اسمها الدولار. فالدولار هو السيد والملك والبيت والحلم وهو الذي يجعل كل شئ في الحياة مرغوبا فيه, وهو الذي يحول كل رغبة إلي دنيا فاسدة الطعم. انتبهت إلي صورة المرأة التي علي الشاشة في فيلم عين الإبرة. إنها تدق باب العشيق بإصرار. لقد وصلتها رسالة جنونه بها, فإكتملت أنوثتها بجنونها. تسترجع شريط حياتها. تذكر ليلة الزفاف جيدا: كانت فرحانة لأنها تتزوج طيارا من قرية. لم تفكر يوما أنه سيدخل الحرب ويأتيها علي كرسي متحرك وعلي صدره وسام بطولة, ولا يعرف كيف يذهب إلي الحمام بمفرده. يسترجع الجاسوس شريط حياته: ففي نفس ليلة الزفاف هذه كانت ألمانيا تنتظر منه تقريرا يرسله بالراديو عن تحركات الطيارين في هذه المدينة الإنجليزية الصغيرة. كان يحب ألمانيا ويكره إنجلترا رغم أنه إنجليزي الجنسية. لقد جاء إلي الدنيا كطفل لأسرة إنجليزية تعمل في السلك السياسي, وعندما ذهب أبوه إلي ألمانيا ليعمل, كان الطفل الصغير قد أودع مدرسة ألمانية داخلية؟ هناك شرب حب ألمانيا ضد العالم, وعندما كبر اختار أن يعيش ألماني القلب, إنجليزي الجسد. فلم يكن هناك مفر من أن يكون جاسوسا. مع امتزاج الإثنين نكتشف أن فكرة الخيانة الزوجية لم تكن اختيارا للزوجة. ونكتشف أن فكرة خيانة الوطن لم تكن اختيارا للجاسوس. إن الإنسان يبدو كمسألة الحساب الناتجة من ظروف متشابكة.
لم تملك الجميلة القدرة علي طلب الطلاق من الزوج المشلول فاختزنت أنوثتها إلي أن انفجرت فيها لتسعي إلي أحضان رجل لا تعرف أنه جاسوس.
ولم يملك الجاسوس قدرة علي رؤية غباء والده الذي ألقاه في مدرسة داخلية يتلقي فيها أفكارا ترحل بقلبه بعيدا عن حب الوطن. لذلك خان قلبه الوطن وتحرك جسده علي مسرح الخيانة ليكون الجاسوس المفضل لدي هتلر شخصيا, ويهدي كل الخراب لأهل بلده الأصلي, فهو من أهدي هذه المرأة ذلك الزوج العاجز؟
وهو الرجل الذي لم يجد امرأة في الدنيا يمكن أن تعطيه الحنان كما تعطيه هذه الإنجليزية الحسناء. أقول لرفيقة الرحلة التركية الحسناء: إن هذا الرجل مسكين ولسوف يقتلونه في آخر الفيلم برصاصة كإنسان لا لزوم له رغم أن مجتمع إنجلترا هو الذي أنجبه. وهذه التي خانت زوجها رمز لإنقاذ بريطانيا من جاسوس, ولسوف تحمل في قلبها الحزن علي الرجل الوحيد الذي اعترفت له أنه أسعدها..إنه الجاسوس. قالت التركية الحسناء: ما تراه علي الشاشة الآن هو ما يحدث لك لو انبهرت بأمريكا أكثر من اللازم, حينها تصبح كارها لبلادك, عبدا لهم, تحتقر نفسك مرة لأنك عشت في بلاد فقيرة, وتحتقر نفسك أكثر لأنك تعيش في مجتمع لا يسمح لك بالتنفس بعيدا عن الخوف.إنهم يمزجون الهواء هناك بالخوف, تماما كما حدث مع زوجي. قلت:آسف, استغرقني الفيلم قليلا,ولم أسألك هل طبق زوجك نصيحة الطبيب النفسي؟ هل دعا رئيسه الذي كان يرعبه إلي الغداء؟ قالت: نعم فعل ذلك. والمأساة أن زوجة هذا الرئيس كانت تشكو من الفراغ العاطفي الشديد. ووجدت في زوجي شيئا مميزا. اكتشفت فيه أنه إنسان عاطفي وأنه إنسان له مشاعر, وأن زوجها مجرد رجل قاس يجمع الدولارات فقط.إنها هي صاحبة الشركة التي يعمل زوجها مديرا لها, لذلك بدأت رحلتها العاطفية مع زوجي أنا. وتساءلت باندهاش: زوجة الرجل المرعب تعشق زوجك الخائف؟! فقالت التركية الحسناء بأسي شديد: نعم. حدث ذلك. كنت قد علمت زوجي كيف يقرأ الشعر. كنت قد علمت زوجي كيف يحكي حكايات ألف ليلة وليلة. كنت أحاول خلال رحلة خوف زوجي أن أقدم له العون الإنساني بأن أقرأ التراث الأدبي الشرقي. وأستخدم زوجي هذه القراءات في إغراء زوجة رئيسه المرعب, وكانت نتيجة طلاق زوجة رئيسه, وهجر زوجي لي. فصار الأمر مأساة حقيقية, وكابوسا مرعبا بالنسبة لي. وجاءني رئيس زوجي بعد أن أصبح مفصولا من الشركة يطلب مني أن أدخل معه في مشروع عاطفي حتي ننتقم لأنفسنا. طبعا كان القرف قد ملأني من المسألة كلها فطردته. وعندما بلغ زوجي مسألة طردي لرئيسه السابق أجزل لي التعويض عن الطلاق وهذا ما جعل قرفي يزداد أكثر وأكثر. وأصبحت ثرية وحيدة, وأعيش في نيويورك. لذلك قررت أن أزور أكثر بلدان العالم أصالة. كنت أريد أن أزور أي بلد يحتفظ بعطر الزمن القديم للغاية, لذلك زرت صنعاء اليمن وعدت من صنعاء إلي باريس وأنا الآن في طريق عودتي إلي نيويورك, نيويورك يسمونها التفاحة العفنة.
قلت: هل أعجبتك صنعاء؟ أنا زرت الكثير من مدن العالم, لكني لم أحب مدينة أكثر من صنعاء. في يومها يعيش الإنسان فصول السنة الأربعة, ومع سكانها يري الإنسان قمة التاريخ القديم الممتزج بالسخرية من العصر الحديث, لا رفضا للعصر, ولكن بحثا عن زمن متوازن, زمن لا يلهث فيه الإنسان فيترك ضميره تحت حذائه, ولا ينام فيه الإنسان في وهم قديم.
قالت: أنا أحببت صنعاء أكثر مما أحببت أي مدينة في العالم, لكن باريس تعجب المرأة أكثر. باريس تعرف أن المرأة طفلة صغيرة تحب أن ترتدي ملابس عصرية وعطورا وحقائب, وتقدم للشرقية مثلي مسرحا عالميا لا أجده في نيويورك, بعطره الملون الساحر.( طبعا كانت رحلتي وحواري مع الأمريكية ذات الجذور التركية قبل حرق اليمن بحربها المعاصرة).
قلت: أنظري إلي الشاشة. المرأة العشيقة هي التي ترشد البوليس إلي الجاسوس والذي اكتشف أنه جاسوس هو زوجها المشلول. وسوف تقتله في نهاية الفيلم وتبقي حياتها مجرد تذكار لمغامرة قديمة.
انتهي الفيلم.
ضحكت التركية الحسناء كثيرا وهي تقول: يبدو أنك تحب السينما. ألا تعرف أن السينما هي أوهام دفعت فيها أنا وأنت ثمانية دولارات؟
قلت: كل الأوهام ندفع فيها الكثير.. فهاهو رجل دفع حياته لوهم عشق امرأة, وامرأة تحيا علي نيران حياة لم تردها لنفسها.
قالت: كلنا نحيا علي نفس النيران, نيران حياة لم نردها لأنفسنا.
..................
وأعلن الطيار قرب وصولنا إلي مطار كيندي وبدأ يعلمنا بدرجة حرارة نيويورك بأنها تقترب من الصفر. قلت لجارتي: شتاء نيويورك ساخن بتعارفي إليك. وأرجو أن أحيا في نيويورك مع ربيع متحف المتروبولتان الصاخب بما أحبه من فنون.
قالت: لماذا لا نتواعد علي اللقاء في المعبد المصري بهذا المتحف؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.