لم تثر دولة جدلا مثلما أثارت دولة قطر التى تسعى منذ سنوات لتكون أحد اللاعبين الإقليميين فى المنطقة، رغم أنها تعانى افتقارا واضحا للدبلوماسيين من أصحاب الخبرة، ولعل ذلك ما كان يدفعها دوما إلى الارتكاز على ممثلين من جنسيات مختلفة، كالدكتور المصرى حسن كامل، الذى مثل قطر فى هيئة الأممالمتحدة، والأستاذ وليم قازان الذى اعتمده الأمير الأسبق الشيخ خليفة كممثل له فى باريس وأوروبا الغربية. وتنتهج قطر منذ فترة طويلة سياسة خارجية توسعية وبراجماتية فى آن، فى إطار السعى إلى الحصول على دور إقليمى أكبر. وراهنت قطر على علاقاتها مع القوى الكبري، وفى الصدارة منها الولاياتالمتحدة التى تتواجد أكبر قواعدها العسكرية فى قطر ذ قاعدة العديد الجوية - فضلا عن الانخراط وبناء شبكة واسعة من العلاقات الإستراتيجية مع الفاعلين من غير الدول مثل الجماعات الجهادية. وعلى الرغم من إخفاق قطر فى سياستها الخارجية إلا أنها مازالت مدفوعة نحو أداء أدوار أكبر من طاقاتها فى الإقليم اعتماداً على الوفرة المالية التى حققتها عوائد تصدير الغاز والنفط. فى هذا السياق العام يقدم كتاب «قطر الدولة المتقلبة» الصادر حديثاً عن مركز الأهرام للنشر، تحليلاً وافرا مستنداً على مؤشرات رقمية وكمية عن اقتصاد قطر وثرواتها من الغاز. ولم يغفل الكتاب الدور القطرى فى ثورات الربيع العربي، وكيف ساهمت فى تسخين المشهد قبل صعود الحركات الإسلامية التى دعمتها بالمال والإعلام إلى سدة الحكم فى تونس ومصر وليبيا وسوريا، برغم أن المحصلة النهائية كانت إخفاق هذه الحركات فى الاستمرار فى السلطة. غير أن الكتاب لا يمثل منصة لإطلاق قذائف النقد والتشفى فى النموذج القطري، بل يثمن الكثير من المبادرات التى ساهمت فى تحويل قطر إلى بلد يعتمد على العلم وتنوع الإنتاج والمشاركة فى الازدهار العالمي، عبر تملك استثمارات فى دول متطورة وأخرى نامية، فى المقابل يبين المؤلف ثغرات السياسية القطرية فى شقيها الاجتماعى والسياسي، بخاصة انخفاض عدد القطريين مقارنة بمجموع السكان الذى وصل إلى نحو 2,2 مليون نسمة غالبيتهم 85% من الوافدين. وينطلق الكتاب فى فصله الأول بالتركيز على العوامل التى وضعت قطر فى بؤرة التركيز العالمي، ومنها التطور المالى والاقتصادي، فهى الدولة الأكبر إنتاجاً وتصديراً للغاز المسيل ناهيك عن أنها تحوز ثالث أكبر احتياطى للغاز فى العالم بعد روسياوإيران. ولعل النمو الاقتصادى السريع ساعد على استقرار البلاد، وتجاوزها مفاعيل الأزمة المالية العالمية. خلاف ما سبق نجحت قطر فى استضافة كأس العالم 2022، ووصل الزخم حول قطر عقب الربيع العربي، واعتمادها خيار دعم الحركات الإسلامية، ونشطت لذلك محطة الجزيرة التى نددت بالحكام العرب، وأفسحت المجال أمام قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وبخاصة الشيخ يوسف القرضاوي. ولم يكن كل ماسبق هو المهم، والذى دعا إلى التركيز على موقع وموضع قطر فى السياسة الإقليمية، وإنما مثلت استقالة أمير قطر حمد بن جاسم فى يونيو 2013 وصعود ولى عهد ونجله تميم إلى سدة السلطة حدثا مفصليا فى مسارات قطر العائلية من جهة وتوجهاتها السياسية من جهة ثانية. الأرجح أن التحولات السياسية الخارجية والتغيرات العميقة فى بنية السلطة القطرية، لم تكن محل استحسان، إذ واجهت قطر موجة من الانتقادات والتشكيك فى الصحافة العالمية ومن بيوت الخبرة السياسية، خصوصا بعد مساعداتها الجماعات الدينية الراديكالية فى أفغانستان وسوريا ومناهضتها النظام السياسى فى مصر وخروجها عن الإجماع الخليجى إزاء عدد معتبر من القضايا السياسية. والواقع أن السلوك القطرى إزاء بعض قضايا الإقليم، جعلتها موضع نقد لاذع، فعلى سبيل المثال واجهت قطر بحسب المؤلف، موجة من الانتقادات والتشكيك فى الصحافة الدولية ومن قبل عدد من الباحثين، منهم الدكتور على الكوارى الذى وضع كتاباً انتقد فيه السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية السابقة لتاريخ استقالة الأمير الشيخ حمد بن خليفة، كما نشرت مجلة فورين بوليسى foreign policy الأمريكية، دراسة تحتوى على انتقادات شديدة لقطر، كما أن مؤسسة كارنيجى نشرت دراسة تحتوى انتقادات موازية وضعها «كريستان كوتس». ويمضى الفصل الثانى من الكتاب فى بيان التطور الحادث فى مجال الطاقة فى قطر، وكيف تحولت من منتج بسيط للنفط إلى عملاق للغاز. وبدأت اكتشافات الغاز فى العام 1961 عندما اكتشفت شركة شل حقل غاز الشمال، وفى منتصف السبعينيات بذلت شركة قطر الوطنية زالشركة القطرية العامة للبترولس جهوداً كبيرة لاستكشاف امتداد حقل الشمال وتقدير احتياطاته من الغاز الحر. وفى العام 1995 تحققت مشاريع إنتاج الغاز وتطويره وتصديره، وتحولت قطر بحلول العام 2005 إلى أكبر مصدر للغاز المُسّيل فى العالم. غير أن اكتشافات قطر من الغاز وتوسعها فى تصديره أثارت حفيظة إيران، فقد كشفت طريقة تعاطى طهران مع قطر واحتياطاتها من الغاز عن مشاعر حقد، حيث طالبت ب 10% من جميع عائدات استغلال حقل الشمال المتاخم لها. وكانت العلاقات الإيرانيةالقطرية قد أصابها الفتور بعد إنهاء قطر اتفاق يقر بمنفعة إيران فى غاز الشمال مقابل مد انبوب لتوريد المياه من إيران إلى قطر، وأصبحت المسألة أكثر تعقيداً مع توثيق الدوحة علاقاتها مع واشنطن ثم موافقتها فى بدايات العام 1997 على إنشاء قاعدة جوية أميركية على أراضيها، ولعل هذا ما يفسر مباركة واشنطن عزل الأمير حمد بن خليفة لوالده وإمساكه بمفاصل السلطة فى يونيو 1995. ومع استقرار الحكم وطى صفحة الأمير خليفة بن حمد الأب، حاول الأمير حمد بن خليفة بمعاونة زوجته زموزةس وحمد بن جاسم أقرب حلفائه، إعادة صوغ السياسية القطرية، وإنتاج صورة ذهنية جديدة لقطر. فبالإضافة إلى إنشاء قناة الجزيرة الذراع الإعلامية لقطر، سعت قطر إلى توثيق علاقاتها بالقوى الدولية وإسرائيل. وفى جانب رابع من الكتاب ينتقل المؤلف إلى موقع قطر فى صناعة الغاز والبتروكيماويات إقليمياً ودولياً، خاصة أنها تحوز أكبر طاقة لتسييل الغاز وتصديره إلى العالم، وتملك 55 ناقلة اختصاصية لنقل الغاز، وتقدر كلفتها ب 12 مليار دولار. غير أن الباب يفتح على مصراعيه أمام سؤال بشأن التداعيات المترتبة على التطور المذهل فى صناعة الغاز واستخراجه، لاسيما وأن قطر الإمارة الصغيرة اضطرت لاستقدام آلاف العمال لإنجاز الأعمال الضرورية وهو ما ترتب عليه ارتفاع كلفة المعيشة واختناق السير، وارتفاع عدد السكان إلى نحو 208 آلاف نسمة بنهاية العام 2014. ولعل كل ما سبق يمثل تحديا لقطر الدولة الصغيرة. ومع مجيء الأمير إلى السلطة شهدت السياسة القطرية تحولا نوعياً، خاصة مع تصاعد الانتقادات الدولية ضد قطر واتهامها بدعم الجماعات الراديكالية والسلفية، وتوفيرها ملايين الدولارات عبر شبكات تمويل مشبوهة لدعم المتشددين. كما تخفيف اللهجة العنيفة التى تبنتها قناة الجزيرة ضد بعض الأنظمة العربية فضلا عن تحييد الشيخ القرضاوى ووقف برنامجه. غير أن هذه التحولات لم تكن عميقة ولم تكشف عن تغير فى السلوك القطري، ولعل هذا ما يفسر سحب سفراء السعودية والأمارات والبحرين من قطر فى مارس 2014. المهم أن خبرة السنوات 1995 وحتى 2013 أظهرت نجاحا كبيراً على صعيد التطور الاقتصادي، ورفع كفاءة صناعة الغاز, إلا أنها وبالمقابل كشفت عن تراجع الدبلوماسية الوقائية التى تبنتها قطر، إذ تحول منهج التفاوض الذى اعتمدته قطر لحل المشاكل إلى مساندة لفرقاء مسلحين فى سوريا وليبيا. صحيح أن الأمير تميم غير نسبياً بعض مسارات السياسية الخارجية القطرية ، لكنها مازالت تعانى ضعفاً عاماً، وغياب للرؤية. لذلك يظل الملمح الأساسى لقطر فى السنوات الأخيرة هو التطور الهائل فى صناعة الغاز والاستثمار، لذلك خصص المؤلف ثلاثة فصول كاملة عن الاستثمارات القطرية ودوافعها، فيعرض الفصل السابع للشركات المؤسسة فى قطر تشعباتها الدولية مثل بنك قطر الوطنى وشكر قطر للطيران ويتناول الفصل الثامن الاستثمارات الدولية لقطر كالمشاركة فى تملك أسهم فى بنك كريدى سويس، وشركة فولكسفاجن، وشركة شل إضافة للاستثمارات فى المشاريع العقارية وتملك الفنادق، أما الفصل التاسع فيستعرض أهم الاستثمارات الخاصة لأفراد العائلة الحاكمة والحاشية،والإنفاق على مشاريع ذات طابع سياسي، كالمعونة المقدمة للبنان منذ العام 2006 والمعونة لغزة وغيرها. والفصل العاشر من الكتاب يعرض للتحديات التى يتوقع أن تواجهها قطر فى المستقبل، أولها صناعة الغاز وتصديره، خصوصا مع الاكتشافات الغازية فى غرب آسيا بجوار اكتشافات الغاز الصخرى فى الولاياتالمتحدة، وبرامج إيران لتطوير ثرواتها الغازية بما فيها حقل جنوب زبارسس الذى يتداخل مع حقل الشمال القطري. والأرجح أن تصاعد الاكتشافات الغازية قد يخلق مضاربة فى الأسعار، ويؤدى إلى تراجع الوضع القطرى فى سوق الغاز الذى تعتمد على عائداته بالأساس فى عملية التنمية، والتوسع فى استثماراتها الخارجية. وثانيها زيادة المواطنين غير المقيمين، والذين يشكلون نحو 90% من مجموع السكان، وهو ما يفرض التزامات بنوية وهيكلية على الدولة من جهة ويشكل تحدياً أمنيا فى ظل ضعف المنظومة الأمنية وحدود قدراتها البشرية والتسليحية. فى المقابل تسبب النمو السريع فى قطر بارتفاع تكلفة المعيشة، وارتفاع دخول القطريين، دفعهم إلى الاستعانة بالعمال الأجانب وهو ما كان له تأثير واضح على الروابط العائلية. إضافة لما سبق يمثل التمدد السياسى لإيران فى المنطقة تهديداً لقطر الدولة الصغيرة، لاسيما أن ثمة أحقاد وأطماع فارسية لإيران فى منطقة الخليج، كما أن قطر تعانى توتراً فى علاقاتها الإقليمية مع بعض الدول وفى الصدارة منها مصر ناهيك عن حالة المراوحة مع بعض الدول الخليجية. لذلك تبقى قطر بحاجة إلى إعادة النظر فى سياستها الاقتصادية والسياسية، ويمكن فى هذا السياق بحسب المؤلف اعتماد سلسلة من الإجراءات العاجلة منها مقدار من التقشف فى الإنفاق الداخلى خاصة على المشاريع العقارية التى تلتهم جزءا معتبرا من ميزانية الدولة ودخول المواطنين. وثانيهما ضبط تدفق العمالة من الخارج، وتحديث القوانين المتعلقة بحقوق الوافدين. ويرتبط الإجراء الثالث بمتابعة جهود تنويع التعليم، وضرورة الانتقال بالاقتصاد القطرى من اقتصاد يعتمد الهيدروكربون فى المقام الأول إلى اقتصاد المعرفة. كما تحتاج قطر إلى منهج جديد للإعلام يتماشى مع متطلبات الصحافة الحرة والمكتوبة والمرئية، وقد أظهرت قطر شأنها شأن كثير من دول المنطقة إخفاقاً كبيراً فى هذا المجال. ويبقى مهماً إعادة هيكلة قناة الجزيرة وخطاباتها الزاعقة ضد المشيخيات العربية دون أن تقترب من قطر من قريب أو بعيد وكانت شبكة الجزيرة قد ساهمت فى إعطاء صورة منيرة عن قطر مقارنة بمحيطها الإقليمي. فالجزيرة لعبت دوراً فى تسخين الربيع العربي، فعلى سبيل المثال كانت حاضرة بقوة عقب إسقاط مبارك فى القاهرة، وأسست حينها شبكة زالجزيرة مباشر مصرس كما انتهجت نفس الدور فى تونس وليبيا وسوريا. كما يعتقد مؤلف الكتاب بأن محاولات قطر لتأسيس منتدى للديمقراطية هى نوع من الفولكلور، كما أن دعوة رموز سياسية ومفكرين تحول إلى نوع من التقليد أكثر منه لتقديم رؤى نقدية وفكرية يمكن أن تقدم بديلاً يرقى بأحوال الديمقراطية فى المنطقة. ولذلك لم يكن غريباً فشل محاولة قطر تأسيس جمعية زصحافيون بلا حدودس على غرار الوضع فى فرنسا، فقد انتهت التجربة بعد ستة أشهر واستقال الفرنسى الذى اختير لتأسيس الجمعية، اعتراضاً على تعامل موظفى وزارة الثقافة معه. وعلى صعيد ذى شأن يجب توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الدول العربية المجاورة، وفى الصدارة منها القاهرة التى تمثل لاعب إقليمى برغم العثرات التى تمر بها. وكانت العلاقة بين القاهرةوقطر توترت على خلفية عزل مرسى عن السلطة عقب احتجاجات شهدتها البلاد فى 30 يونيو 2013، وطالبت قطر حينها بسحب وديعة ال 5 مليارات من البنك المركزى المصرى التى كانت قد خصصتها لمساعدة مصر كما امتنعت عن تقديم أى دعم للقاهرة فى مؤتمر شرم الشيخ الذى عقد فى مارس 2015، وذلك خلافاً للتوجهات الخليجية التى تعهدت بدعم الاقتصاد المصرى وضخ مزيد من استثماراتها فى القاهرة. العلاقة مع القاهرة لم تكن بحسب المؤلف أحسن حالا بمقارنتها بعلاقة قطر بدول عربية أخري، فقد كانت قطر الخاسر الأكبر من التحولات التى شهدتها تونس عقب سقوط حركة النهضة ناهيك عن توتر علاقاتها مع لبنان والسلطة الفلسطينية وغيرها. وإذا كان المؤلف يدعو قطر بضرورة إصلاح العلاقة مع محيطها العربي، فهو لم يغفل ضرورة الإشارة إلى توثيق علاقات قطر الخارجية، وفتح نوافذ مع دول أخرى ، وبخاصة الصين القطب الصاعد. الكتاب الصادر مطلع يناير الجارى للكاتب اللبنانى مروان يعد مهماً ومرجعاً للدراسين والمهتمين بدولة قطر وواقعها الاقتصادى والاجتماعي، خاصة أنه يقدم تشريحاً نافذاً للإمارة الصغيرة التى ما زالت رقماً فى معادلة التوازنات الإقليمية. الكتاب : دولة قطر المنقلبة المؤلف :مروان اسكندر الناشر: مركز الأهرام للنشر 2016