بينت في مقالي السابق كيف بدأ حكم العسكر في مصر الفرعونية مع الأسرة الثامنة عشر, التي طردت الغزاة الهكسوس تحت قيادة أحمس الأول, القائد المظفر لأول حركة تحرر وطني في التاريخ, وأسست تحت قيادة تحتمس الثالث; أول إمبراطورية في التاريخ, لردع أعدائها وإخضاعهم بالسيف والذهب في الشرق والجنوب. وقد تداعت الأسرة المالكة والإمبراطورية المصرية حين سرح الفراعنة الجيوش, وذهبت عنهم ريح البطولة العسكرية, وغرقوا في بحبوحة الثراء, ودبت في نفوسهم الرخاوة, وفسدت أخلاقهم. وقد بلغت الصراعات الداخلية والتهديدات الخارجية أقصاها في عصر اإخناتونب في أواخر عهد الأسرة الثامنة عشرة, حتي جاء اعصر العسكر الرعامسة الأولب حين مكن الفرعون العسكري احور محبب قائد جيوش ووزيره ارمسيس الأولبمن خلافته, فتأسست الأسرة التاسعة عشرة, التي أقالت مصر من عثرتها, واستردت الكثير من مجدها الغابر, وسار أبرز علي هدي زماعتس أي العدل والصدق والحق. لكننا نعرف من سليم حسن, في الجزء السابع من موسوعته, المعنون زعصر مرنبتاح ورمسيس الثالث ولمحة في تاريخ لوبيةس أن أحوال مصر قد أنذرت بسوء المنقلب في أواخر عهد زمرنبتاحس إبن رمسيس الثاني. فقد حل الفقر بالبلاد جراء الحروب الطاحنة, وتفاقم الصراع علي العرش بين صفوف الأسرة المالكة, وتعاقب الفراعنة في فترات متقاربة; بالعنف تارة وبالمؤامرة تارة أخري. وقد كان السر في مد سلطان مصر وعظم فتوحها تكوين الجيش المصري منذ مطلع الأسرة الثامنة عشر من جنود مصريين. وحين أخذ فراعنة العهود المتأخرة يعتمدون في جهاز الشرطة والقوات المسلحة علي الأجانب, وبخاصة النوبيين واللوبيين, حتي وصل بعضهم إلي أعلي الرتب, رأينا مغامرا سوريا تمكن من إعتلاء عرش مصر مع نهاية الأسرة التاسعة عشرة!! فجاء عهد شقاء ومحن أدي بمصر إلي الهاوية. وقد وصف لنا ارمسيس الثالثب حالة البلاد في نهاية الأسرة التاسعة عشرة في وثيقة, تعد من أعظم ما خلفه التاريخ المصري من حيث الروعة والإتقان والمعلومات القيمة, وهي اورقة هاريسب المشهورة, التي تبين مدي الارتباك والخراب اللذين لحقا بالبلاد. لكن المصريين هبوا مجددا تحت قيادة الفرعون استنخت, الذي خاض كفاحا عنيفا حتي طرد الغزاة, وثبت نظام الحكم في البلاد, وعمل علي استرداد مجد مصر الغابر وسلطانها المضيع في محيطها. وقد بدأ اعصر العسكر الرعامسة الثانيب مع إبنه ارمسيس الثالث, الذي كان من أعظم الفراعنة الذين ساقهم القدر للنهوض بمصر مجددا, إذ جعل الحياة تدب في أوصالها المتداعية, وتعيد الروح لجسمها المنحل. فقد أعد جيشا عظيما منظما قويا; استطاع أن يعيد لمصر جزءا كبيرا من إمبراطوريتها في آسيا, وتغلب علي أعداء أرادوا إجتياح مصر من البحر, ودحر آخرين طمعوا في استيطانها من الغرب. وتمكن من إعادة تنظيم الشئون الداخلية للبلاد, وأصلح حالة الزراعة وغيرها من قطاعات الإنتاج, فأثرت البلاد ونعم أهلها; وأصبح في مقدوره أن يقيم القصور الفخمة والمعابد الضخمة, وشهدت مصر عهدا جديدا من الرخاء والقوة والمجد. ويعد عهد ارمسيس الثالثب من أحرج العهود في تاريخ مصر, ومن أهمها في تاريخ الجنس البشري, إذ إنحدر سيل هجرة جارف من آسيا الصغري ومن شمال البحر المتوسط, استهدف إستيطان الشرق الأدني والاستيلاء علي مصر, زاحفا من فلسطين ومن البحر, ولم تكن هناك قوة في العالم تستطيع وقف هذا الزحف الجبار. وقد كان خطرهم عظيما جدا, ولولا شجاعة ارمسيس الثالثب وحسن تدبيره لحلت بالبلاد كارثة أعظم ضررا وأشد خطرا من غزو الهكسوس. وقد زاد الطين بلة, أن قامت قبائل ا اللوبيينب وبالمشوشب بالزحف علي مصر من الغرب حتي وصلوا إلي الدلتا بمساعدة الغزاة من اشعوب البحرب. وقد تمكن ارمسيس الثالثب بعد مواقع طاحنة من إلحاق هزيمة نكراء بالغزاة وردهم علي أعقابهم, وأخضع بلاد لوبيا وقبائلها المختلفة, كما أقام الاستحكامات والمتاريس علي ساحل البحر المتوسط عند ادمياط, ونازل أسطوله أسطول العدو في أول معركة بحرية مصورة عرفت في تاريخ العالم, سجلت علي جدران معبد مدينة اهابوب. كما قام بحملات ظافرة علي المتمردين في اسورياب والولايات المتاخمة لها, فعادت تدين لمصر بالطاعة. وكان في بادئ حكمه قد قمع ثورات هبت في بلاد اكوشب بالسودان, وأعادها موالية تؤدي له الجزية. وقد عاشت مصر تحت حكم ارمسيس الثالثب عهدا من الرخاء والأمن; حتي اأن المرأة أصبحت تسير في الطرقات دون أن يعترضها أي فرد من سفلة القوم وأشرارهمب!! وأقيمت المتنزهات في أنحاء البلاد, وغرست بالأشجار الوارفة يستظل بها القوم في الصيف!! وقد أقام العدل في شتي ربوع البلاد وبين مختلف الطبقات, وإذا أخذنا معيارا لحالة السكان المعيشية وقتئذ ما كانت تملكه الأسرة المتوسطة من الفلاحين التابعين للمعابد, لوجدنا أن الأسرة المصرية وقتئذ كانت أسعد حالا وأرغد عيشا من الأسرة المصرية الحالية, إذ كان رب الأسرة يملك حوالي سبعة أفدنة ونصف فدان, يزرعها ويؤدي عنها خراجا بسيطا!! والواقع أن الملوك الأول في عصري العسكر الرعامسة قد حققوا إنجازات عظيمة, فشهدت البلاد حالة من الرخاء والإزدهار والعدالة والمجد. فقد أنقذ الرعامسة في عصرهم الأول مصر من الفوضي الداخلية التي ورطها فيها اإخناتونب وأخلافه, وأعادوا للبلاد مجدها المضيع في الخارج. وخلص الرعامسة في عصرهم الثاني مصر من أيدي الأجنبي الغاصب الذي استولي عليها, ودافعوا عن حدود البلاد في الشرق والجنوب, وأوقفوا زحف اللوبيين وأقوام البحار. ولكن من سوء طالع مصر أن عدد الملوك العظام في كلتا الأسرتين لم يكن كبيرا, ففي الأولي يتولي ثلاثة فراعنة عظام, وفي الثانية لم يتوال علي عرشها إلا ملكان عظيمان, ثم خلف من بعدهما خلف من الملوك الضعاف ساروا بالبلاد نحو الهاوية. والأمر أن الأحوال في مصر أخذت تنحدر شيئا فشيئا إلي الهاوية قرب نهاية عهد رمسيس الثالث, وخاصة مع تدبير إحدي نساء القصر مؤامرة لاغتيال الفرعون, وازدياد عدد الأجانب في البلاد وسيطرتهم علي كثير من شئون الدولة. فنقرأ في اورقة الإضرابب أن عمال ادير المدينةب في مقابر طيبة قد قاموا بأول إضراب عمالي في التاريخ بسبب قلة الجرايات!! ولم يكد رمسيس الثالث يواري في التراب حتي لم يقو خلفه علي معالجة الأمراض المنتشرة في جميع نواحي الدولة, التي أسرعت إلي الهاوية شيئا فشيئا إلي أن انحلت عراها. وقد انتهت سيادة مصر في الشرق باختفاء آخر رعامسة الأسرة العشرين, وبدءا من أسرة االكهنةب وحتي قيام الأسرة االصاوية, عاشت مصر فترة اندفاع نحو الهاوية. فالسلطان العالمي الذي كانت تتمتع به اطيبةب وإلهها اآمون رعب ملك االآلهةب لم يعد يعترف به خارج حدود مصر, ولم تعد تتدفق جزية البلاد الأجنبية; إلا بعض المال الذي كان يرد إلي خزانة كبار الكهنة. وقاد هذا الانحطاط السياسي والعسكري الي ركود اقتصادي; جر وراءه تأخرا في الفن وفي كل الصناعات. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم