مما لا شك فيه أننا فى حاجة ملحة إلى شجاعة التجديد الحقيقى، وإلى شجاعة المواجهة للمشكلات، وإلى قراءة واعية للمستجدات، وإلى معايشة الواقع، وليس الهروب منه، كما أن الواقع المحلّى لا يمكن أن يقرأ قراءة صحيحة بمعزل عن المتغيرات الدولية والواقع العالمي، وفى رؤية وطنية تقرأ الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى والإنسانى قراءة شاملة، إذ لا يمكن أن يكون الجمود عند النص وإسقاطه بحرفيته وبمعطيات زمانه ومكانه وبيئته على زمن غير زمنه وبيئة غير بيئته وظرف غير ظرف الفتوى فيه، وهو ما يعرف ب «فساد القياس»، كما أن عدم تحقيق المناط وعدم تنقيحه يهوى بالبعض إلى مزالق خطيرة، وتلك الأمور كلها لا يمكن أن يعيها ويحسن إسقاطها على الواقع إلا أهل التخصص المتميزون ممن رزقهم الله رؤية وبصيرة وقدرة على الفهم والاجتهاد، غير أن شعرة دقيقة أو خيطا دقيقا يفصل بين التجديد المنضبط والتبديد المنفلت، فالأول يحقق المصلحة، والآخر وراءه مفاسد لا تحصى ولا تعد، إذ لا يمكن أن ننجح إلا بصدق مع الله عز وجل، وصدق مع الناس، وصدق مع النفس، وإعلاء للمصلحة العامة على كل المصالح الخاصة أو الشخصية أو اللهث خلف جنون الشهرة بالبحث عن كل شاذ وغريب ومحاولة تسويقه. ومما لاشك فيه أن هناك أناسا ورجالا زادهم الله بسطة فى العلم والوعى والفهم والتمكن، ورزقهم رؤية سديدة ونظرة ثاقبة، ثم من عليهم بتهيئة سبل صقلها وتنميتها بالمعارف المكتسبة، والمعايشة لواقع الناس، وحسن تقدير الأمور، وهؤلاء هم المرجع الحقيقي، وعلى آرائهم الثاقبة يلتف طلاب العلم النابهون، حتى لو كان هؤلاء العلماء الكبار بعيدين عن أضواء الإعلام وتجاذباته. وفى المقابل هناك آخرون مصابون بالإفلاس العلمى لا هم فى العير ولا فى النفير فى مجال التخصص العلمى الحقيقى الدقيق، لكنهم إما أنهم يملكون صوتا جهوريا عاليا، أو أنهم يبحثون عما يطلبه المستمعون، أو أنهم يحققون لونا من الإثارة الإعلامية التى تبحث عنها بعض الجهات كوسيلة تسويقية، بل إن الأمر قد يذهب أبعد من هذا بتبنى بعض الجهات الداخلية أو الخارجية لهذه الأصوات النشاز، لأنها يمكن أن تحقق جزءًا من أهدافهم بإحداث الفوضى الفكرية فى إطار الفوضى غير الخلاقة التى يسعى أعداء الأمة إلى إحداثها فى منطقتنا . وفى زمن اختلطت فيه كثير من الأمور حابلها بنابلها - كما يقولون - نرى أن القضايا الحيوية للفكر بصفة عامة والفكر الإسلامى بصفة خاصة ينبغى أن تدرس دراسة واعية فى مجامعها ومنتدياتها وجهاتها المختصة، لتخرج رحيقا صافيا فيه شفاء لما فى الصدور، وعلاج حقيقى للأدواء ، وحل للمشكلات . ومن هنا كانت دعوة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، إلى ضرورة الاجتهاد الجماعى فى القضايا المهمة كما ذكر فضيلة الإمام الأكبر فى كلمته الرائعة التى ألقاها فى افتتاح مؤتمر الأوقاف الذى عقد بمدينة الأقصر تحت عنوان «رؤية الأئمة والدعاة فى تجديد الخطاب الدينى وتفكيك الفكر المتطرف»، حيث أكد فضيلته أهمية الاجتهاد الجماعى الذى يدعى إليه كبار علماء المسلمين، ممن يحملون هموم الأمة ومشكلاتها ، ولم يغرهم بريق الدنيا وأطماع السياسة والجاه والمال، لينظروا -غير هيابين ولا وجلين - فى القضايا المشكلة والعالقة، ما كان منها متعلقًا بقضايا الإرهاب والتكفير والهجرة وتحديد مفهوم دار الإسلام، ودار الحرب، وقضايا المرأة، وتحديد أوائل الشهور العربية بالحساب الفلكي، ومسائل الحج خاصة الإحرام من جدة للقادم جوًا أو بحرًا، وكذلك رمى الجمرات فى سائر الأوقات، وأيضا: استنهاض الأمة لاستصدار فتاوى توجب العمل وتُحرم التقاعس والكسل، شريطة ألا يفتى فى القضايا الدقيقة بفتاوى مجملة، ونصوص عامة لا تنزل إلى الأرض ولا تحسم القضية ولا تغير الواقع .ذلك لكى نقطع الطريق أمام غير المؤهلين وغير المتخصصين، والمزايدين والمتاجرين بالدين، واللاهثين خلف الشهرة أو حب الظهور . على أن المواجهة التى نبحث عنها لدعاة الفكر المتطرف لا ينبغى أن تقف عند المواجهة الفكرية أو بيان الرأى الشرعي، وإن كان هذا هو الدور الأهم، وهو واجب الوقت بالنسبة لجميع المؤسسات الدينية والعلماء المتخصصين، إذ ينبغى أن يتوازى مع ذلك التصدى بكل الوسائل لدعاة الفكر المتطرف سواء أكان هذا التطرف تشددًا وجنوحًا نحو الإرهاب، أو تسيبًا ودعوة إلى الانحلال أو إلى الفوضى، كما ينبغى تطهير جميع المؤسسات الفكرية والثقافية والتربوية والتعليمية والدينية، وكل ما يتصل ببناء العقل المصرى أو العربى من داعمى الفكر المتطرف وإبعادهم عن مواقع اتخاذ القرار، لأن داء التطرف لا يختلف عن داء الإدمان فى الاعتمال والتأثير فى نفس صاحبه، مهما نزع منه نزع إليه، كما يجب التصدى وبكل قوة وحسم إلى دعاة الفوضى والتخريب، وهو ما تتناوله خطبة الجمعة اليوم بإذن الله تعالى . لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة