جاء ذهاب قداسة البابا تواضروس الثانى إلى القدس للصلاة على الأب مطران الكرسى الأورشليمى، كمن القى بحجر فى بحيرة ساكنة، لنكتشف أنها تمور بتيارات متصادمة رغم السكون الذى يبدو على السطح، وتكشف أننا مازلنا نحمل آثار وندوب تقلبات ما قبل 25 يناير، والتى لم تستطع 30 يونيو أن تعالجها أو 8نداويها، بالقدر الذى ينقلنا إلى دولة المواطنة بشكل كامل. فعلى الرغم من تأكيد الكنيسة أنها حدث كنسى، من ألفه إلى يائه، فرضته واقعة قدرية لا تخضع لحسابات أو ترتيب، وأن الأب المطران الراحل يأتى فى الترتيب تالياً للبابا البطريرك بصفته التى تضعه سابقاً لإخوته المطارنة حتى لو كانوا أقدم منه رسامة، مما يتوجب معه أن يقود الصلاة درجة أعلى فى رتبة الأسقفية، وهو هنا البابا البطريرك، يدعم هذا رغبة الأب الراحل ورغبة رعيته. رغم هذا انطلقت دوامات القاع لتحاصر ذهاب البابا وتتناوله برؤى سياسية تستحضر الأيديولوجيا وبعضها يصفى حسابات معلقة سواء مع الكنيسة أو عبرها مع تيارات سياسية أخرى، وتعقد المقارنات بينه وبين قداسة البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث، فى شأن زيارة القدس وقراره منع السفر الى المدينة المقدسة بغير أن تقرأه فى ظرف زمانه، أو حتى تبحث فى الأسباب المصاحبة، فقد صدر القرار بداية وفى ظن متخذه أنه ورقة ضغط على اسرائيل بشأن ازمة ديرالسلطان، التى تفجرت فى أجواء المواجهة المتصاعدة مع اسرائيل وفى ثناياها يستولى الرهبان الأثيوبيون على الدير، وتلجأ الكنيسة المصرية ممثلة فى مطرانها بالقدس إلى القضاء وتحصل على حكم بملكيتها للدير وتتقاعس الحكومة الإسرائيلية فى تنفيذ الحكم لحسابات سياسية، فيصدر قرار الكنيسة بتحريم ذهاب الأقباط فى المواسم الدينية الى المدينة المقدسة، وتجرى فى النهر مياه كثيرة ومضطربة، وتتصاعد فى طرف منها بين الكنيسة والدولة والرئيس السادات على خلفية استهداف الأقباط من الجماعات الإرهابية والتى بدأت مبكراً مع احداث مدينة الخانكة، ووثقتها لجنة العطيفى لتقصى الحقائق فى تقرير ضاف ابتلعته ادراج البرلمان، وحتى احداث الزاوية الحمراء، عبر سنوات عشر مازالت بحاجة إلى دراسة قد تنتهى إلى كشف الكثير من خفايا هذا الصدام، وقد نفهم منها لماذا تحول قرار المنع ليصبح فى مواجهة «التطبيع» ويصدر عن المجمع المقدس للكنيسة، فتوقيت صدوره 26/ 3/ 1980 بينما كان التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد فى 17 سبتمبر 1978. التحول الى توظيف القرار ليبدو وكأنه ضد التطبيع لابد أن يقرأ فى ضوء التصعيد فى المواجهة بين السادات والبابا، ومن خلال شهادة الأب متى المسكين نقف على بعض منها إذ يقول فى مذكراته “حدثت الأزمة فجأة باعلان الكنيسة القبطية يوم26 مارس1980 إلغاء الاحتفالات بعيد القيامة الموافق6 أبريل1980 وبرفضها لاول مرة في التاريخ بروتوكول الحكومة الخاص بالمندوبين المرسلين من قبل رئيس الدولة للتعييد على الأقباط داخل الكنائس سواء في القاهرة أو الاسكندرية أو سائر المحافظات وتطبيق ذلك ايضا علي كل الكنائس القبطية في كل بلاد العالم بمنع السفراء والقناصل من دخول الكنائس القبطية لتقديم تحية العيد للأقباط. ويواصل الأب متى المسكين “كان هذا في نظر بعض السياسيين بمثابة تحد شخصي للرئيس أنور السادات خاصة أن توقيته جاء متزامنًا تمامًا مع استعداده للسفر إلي أمريكا للتفاوض في مشروع الحكم الذاتي للفلسطينيين. وقد اجبرني بعض أراخنة الأقباط على التدخل لحل الازمة، ولكن بعد فوات الوقت، فقابلت الرئيس السادات مساء السبت5 ابريل1980 قبل سفره بيوم واحد إلي الولاياتالمتحدة، وذلك بعلم ورأي قداسة البابا شنودة والمجمع الموسع الذي انعقد في دير الانبا بيشوي كمحاولة لحل الازمة في آخر لحظة. فأخبرني الرئيس في هذه المقابلة بانه مستاء من تصرف الكنيسة. ولكن مظاهرات أقباط المهجر ضد الرئيس في أمريكا امام البيت الابيض وامام الفندق الذي سينزل فيه الرئيس بلير هاوس، صاعدت الموقف واعتبر السادات أن الكنيسة أدخلت نفسها كطرف صراع ضد الدولة.” ويتواصل التصعيد فى خطاب الرئيس السادات فى عيد العمال وتلويحه بتراجعه عن قرار عاصف بحق البابا شنودة، ثم كلمة البابا فى اجتماعه الأسبوعى بالكاتدرائية والذى حمل نبرة التحدى، لينتهى الأمر بقرارات السادات فى 5 سبتمبر 1981والمتضمنة عزل الباب أو اعتقاله، لنجد أنفسنا أمام خاتمة درامية باغتيال السادات. لسنا هنا بصدد تناول قضية التطبيع، المضمون والملابسات والجدوى، لكننا إزاء سعى البعض لربط ما هو دينى بما هو سياسى، ونحتاج إلى السؤال عن مشروعية ايقاع عقوبة دينية على مخالفة قرار سياسى، إذ تضمن قرار المنع حرمان من يتجاوزه بالسفر فى عيد القيامة من شعيرة “التناول” وهى واحدة من ابرز ممارسات الأقباط فى عبادتهم، وتعد بمثابة امتداد للعلاقة الحميمية بينهم وبين السيد المسيح، والحرمان منها لا يوقع إلا على من أخطأ خطأ جسيماً فى حق الإيمان والكنيسة. وحتى فى هذا الإطار هل يستقيم النظر إلى القرار بعيداً عن التطورات التى لحقت بالقضية الفلسطينية وسعى اسرائيل لتهويد القدس بعد اعلانها عاصمة أبدية لإسرائيل، ونداءات الفلسطينيين بالوجود العربى والمصرى تحديداً لتأكيد شراكتهم فى ملكيتها وحقهم التاريخى فيها، فضلاً عن الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية التى تصب فى مصالحة الفلسطينيين بالمدينة. على أن ما حدث فى شأن اللغط حول سفر البابا يكشف عن حاجة الكنيسة إلى وجود دوائر متخصصة فى مكتب قداسة البابا البطريرك من الأراخنة ذوى الخبرة العلمانيين وهى ما تعرف فى علوم الإدارة “دوائر التفكير” وتتسق مع كون الكنيسة جسدا واحدا بحسب العلوم الكنسية، هذه الدوائر تمده برؤيتها فى التعاطى مع الأمور المتصلة بالشأن العام المجتمعى والسياسى حتى تتجنب المصادمة والمعارك التى تترصدها وليست كلها بريئة. لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى