بعد زيارة قداسة البابا تواضروس للقدس لأداء واجب العزاء ، ورغم نفى وجود أية إشارات سياسية وراء الزيارة غير المسبوقة، والتأكيد على بقاء حظر الحج للقدس المحتلة قائما، يمكن القول إن زيارة السجين وليس السجان مطلب أساسى ومتكرر للفلسطينيين، وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، وهو فى نفس الوقت يأتى كرد منضبط على أصوات داخل إسرائيل تفضح الاحتلال خاصة عاموس عوز، ذلك الأديب الإسرائيلى ذائع الصيت بأعماله المترجمة لمعظم لغات العالم، فله دور مؤثر فى دفع رئيس الوزراء (قائد إحدى العصابات الإرهابية الصهيونية لسنوات) «مناحم بيجين» إلى الاستقالة من منصبه على خلفية احتجاجات شارك فيها أدباء بارزون (منهم أ. ب. يهوشوع، والأديب دافيد جروسمان الذى فقد ابنه فى تلك الحرب) وضباط احتياط رفضاً للغزو الإسرائيلى للبنان ولذا يعد «عوز» أحد أبرز مؤسسى حركة «السلام الآن» الرافضة للاستيطان ومن كبار مؤيدى الأحزاب اليسارية فى إسرائيل. دراسة مواقف «عوز» وتوجهات الأدب العبرى بشكل عام لها أهمية بالغة فى الفترة الحالية لأنها تعكس أزمة مجتمع يكرس العنصرية ويعانى من عدم الاستقرار حتى فى الأماكن التى تدور فيها الأعمال الأدبية. فإذا كان الأدب والنتاج الأدبى يعد فى كل عصر من العصور بمثابة النوافذ أو الإيقونات فى برامج الحاسب الآلى التى نطل منها بضغطة سليمة على عوالم وتفاصيل قد تكون ساحرة وممتعة، فإنها فى جميع الأحوال مادة ثرية فى الوقت ذاته لفهم المجتمعات وتقاليدها، وطباعها، وقيمها، وانحرافاتها، ومخاوفها، وآمالها، ونقاط ضعفها، والأدب العبرى يؤثر بشكل قاطع على السياسة فى إسرائيل نظرا لارتفاع نسب القراءة فى إسرائيل بحثا عن استقرار وحياة طبيعية بعد سنوات طويلة فى الشتات، حيث لا توجد بيئة مشتركة أو تاريخ مشترك، مروراً بالهجرات الصهيونية إلى أرض فلسطين، حيث تمدد الكيان الصهيونى بشكل سرطاني، حتى بلغ ذروته فى 67 ثم عاد وانزوى وتقلص هذا الوهم المؤقت هنا بعد سلسلة من الانسحابات بدءاً من حرب أكتوبر وما تلاها، فانسحبت إسرائيل من سيناء على مراحل آخرها طابا، وما واكبها من إخلاء آخر مستوطنة بها (ياميت)، ثم الانسحاب من جنوبلبنان وأخيراً قطاع غزة. وكأن الأدب العبرى فى الواقع فى رحلة تحيط بها المخاطر الوجودية ويكتنف مستقبلها الغموض. وقد عبر عن هذه الحيرة وهذا التردد بين الشتات والاستيطان فى فلسطين كاتب إسرائيلى بقوله عن اليهودى الجديد: «لا تتطلع الصهيونية إلى بناء أرض إسرائيل على خرائب الشتات، بل على العكس أرض إسرائيل والشتات يحتاجان لبعضهما البعض. فبدون مجال الشتات ستتحول أرض إسرائيل إلى مقاطعة أو ولاية، وبدون المركز فى أرض إسرائيل من شأن الشتات أن يضمر تماما». وهو ما يعكس حالة من التخبط وعدم القدرة على الانفصال عن الجذور وفى الوقت نفسه عدم قدرة المهاجر لفلسطين على العودة من حيث أتى فى الوقت الحالي. «عاموس عوز» والذى أهدى كتابه «الحب والظلام» لمروان برغوثي، رفض مؤخراً أوهام نيتانياهو المتمثلة فى إقناع الجميع فى إسرائيل بأن حل الصراع مع الفلسطينيين يتمثل فى «ضربة أخرى قوية» نوجهها للفلسطينيين، وهو ما ثبت فشله على مدار المائة عام الأخيرة. وقرر فى قرار أثار ضجة فى إسرائيل مؤخرا مقاطعة كل الأنشطة التى تقوم بها السفارات الإسرائيلية حول العالم للترويج للمواقف الإسرائيلية! ومؤخراً كان ل «عوز» موقف قوى فيما يتعلق بتشجيع اليمين بقيادة نيتانياهو للمتطرفين الراغبين فى تدنيس الحرم الشريف حيث قال: الفرق بين الحق وبين المطلب.. هو أن الحق هو ما يعترف به الآخرون ولذا لا يجب اقتحام الأقصى والصلاة فيه، موضحا أنه بالإضافة إلى أن هذه الصلاة غير مذكورة فى أى مصدر دينى إسرائيلى فإنه «من حقى ألا أمارس حقى حينما أرى شاحنة تعبر الطريق وتكاد تدهسني». وبشر بغد خطير: «قريبا مطارات أوروبا لن تتعامل مع طائرات العال، المنتجات الإسرائيلية ستتم مقاطعتها بجانب المجموعات السياحية التى لن تأتى، والفرق الرياضية الإسرائيلية سيرفض العالم استقبالها». فى المقابل يرتكز نيتانياهو فى الرد على هجمات «عوز» وكبار الأدباء (ساند كذلك الشاعر الشهير ناتان زاخ مواقف الرئيس عباس أبو مازن ضد جموح الاحتلال)، على سياسة قتل الوقت، ومحاولة تكييف الجميع على التعايش مع الرعب الداخلى متمثلا فى انتفاضة السكاكين، والخارجى المتمثل فى إيران، واحتمالية سقوط صواريخ على تل أبيب، أو قدوم جيش روسى لاحتلال إسرائيل! وهى بالقطع أكليشيهات تنم عن إفلاس فى ظل حقيقة أن احتمالية سقوط صواريخ على إسرائيل من إيران أو حتى أبعد من إيران أمر لا يمكن إيقافه أو استبعاده فى ظل التطور المستمر فى الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، وهى الجهود التى لم تسفر سوى عن هيستريا وتخبط حتى فى تعيين «المرشد القومي». ليس الهدف هنا - بالطبع - الترويج لكاتب إسرائيلي، ولا حتى إحياء مشروع الترجمة عن العبرية الذى تم تجميده منذ عقود بل الهدف هو الفهم والمعرفة وهذا يقتضى من وزارة الثقافة وهيئاتها أن تتابع المستجدات على ساحة الجانب الإسرائيلى بضوابط منها أن يقوم بالترجمة متخصصون وأن تكون مصحوبة بتحليل وتفنيد لبعض ما قد تتضمنه تلك النصوص من مفاهيم مغلوطة، فضلا عن رصد وتحليل وإبراز أعمال أدبية عبرية ذات مواقف قوية إزاء جرائم الاحتلال الإسرائيلى تساهم فى تحريك المجتمع الدولى من سباته، فهى فى النهاية أقلام تناصر إعادة بعض الحقوق لأصحابها وتعترف بجرائم حكومات إسرائيل المتعاقبة. لمزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور