ما من عمل يتبوؤه المرء إلا وتنشأ عنه له حقوق، ويفرض عليه واجبات، واستغلال المرء موقعه من وظيفته تجاوز للحقوق التى يخولها عمله له، إذ أنه باستغلاله لموقعه فى عمله قد سعى للحصول على ما ليس من حقه، سواء كان نفوذا أو مالا أو منفعة، وهو فى الوقت نفسه قد تنصل مما يفرضه عليه العمل من واجبات، وأخذ الإنسان ما لا يستحقه وتقصيره فى الواجبات التى رتبتها وظيفته عليه، مما حرمته الشريعة الإسلامية، فاستغلال المرء نفوذا ليس له هو من قبيل التدليس والكذب والتزوير، وكل ذلك محرم، فإذا كان للحصول على المال أو المنفعة فإن ما يحصل عليه من ذلك محرم، لأنه رشوة وهى محرمة، وتقصيره فى واجبات العمل تقصير فيما أوجبه الشارع عليه، فيكون آثما بذلك، ولا يحل له أخذ الأجر لقاء ما قصر فيه، لأنه لم يؤده على الوجه المشروع، ونصوص الشرع تشهد بحرمة هذا الاستغلال: من ذلك ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا لجمع الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى لي، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي، أفلا قعد فى بيت أبيه أو فى بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا، والذى نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت مرتين »، ( الرغاء والخوار وايعار: صوت هذه الدواب )، وهذا الوعيد دليل على حرمة استغلال الموظف وظيفته فى جنى المنافع الخاصة مادية كانت أو معنوية، وتشهد آثار السلف بعدم استغلالهم لمواقعهم: من ذلك: أن ابنى عمر خرجا فى جيش إلى العراق، فلما رجعا مرا على أبى موسى الأشعرى أمير البصرة، فأسلفهما مالا مستحقا لبيت المال ليسلماه إلى أبيهما، ثم كتب إليه أن يأخذه منهما، فلما قدما باعا وربحا فيه ودفعا رأس المال إلى عمر، فقال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما ؟، قالا: لا، فقال: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وأديا ربحه، فأشار عليه بعض الحضور أن يجعله مضاربة، فأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ ابنا عمر نصف الربح، وروى أن عبد الله بن عمر اشترى إبلا وأرسلها ترعى فى الحمي، فلما سمنت قدم بها إلى السوق، فرآها أبوه خليفة المسلمين وقد سمنت، فقال لمن هذه، فقيل لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ بخ ابن أمير المؤمنين، فجاءه ابنه يسعى فقال: ما لك يا أمير المؤمنين ؟، قال: ما هذه الإبل؟، فقلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغى ما يبتغى المسلمون، فقال: لابد وأن الناس قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله أغد على رأس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر مالك واجعل باقيه فى بيت مال المسلمين، وهذه النماذج غيض من فيض تمتلئ به كتب السير والتاريخ عن نهج السلف فى تورعهم عن استغلال الوظيفة العامة فى مصالحهم الخاصة. لمزيد من مقالات د. عبد الفتاح محمود إدريس