أكتوبر هو شهر الانتصارات المجيدة للأمة العربية ففي شهر أكتوبر من عام 1187م استعاد صلاح الدين مدينة القدس في ليلة الإسراء والمعراج يوم 27 رجب سنة 583 ه، بعد احتلال دام نحو قرن من الزمان. وهذا النصر لم يأت من فراغ ولكن بعد خطة تجهيزية و جهود سياسية ومعارك حربية كثيرة. ففي الوقت الذي ظهر فيه صلاح الدين، في أواسط القرن الثاني عشر،كان الوضع السياسي للدولة العباسية غير مرض للغاية، فكانت الدولة العباسية قد تجزأت إلي عدّة دويلات، فالفاطميون يحكمون ولا يعترفون بخلافة بغداد، والصليبيون يحتلون الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط من آسيا الصغري إلي شبه جزيرة سيناء بما فيها مدينة القدس، ويسيطرون علي شمال العراق وسوريا، في هذه الأثناء لمع نجم صلاح الدين في سماء المعارك والقيادة العسكرية. وبعد أن أصبح حاكما لمصر أسس الدولة الأيوبية والتي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية، بعد أن قضي علي الخلافة الفاطمية التي استمرت 262 سنة. وبعد أن أصبحت هذه الدولة موحدة وقوية تحيط بمملكة بيت المقدس والإمارات الصليبية من الشمال والشرق والجنوب، انتقل إلي تحقيق القسم الثاني من مخططه السياسي، وهو محاربة الصليبيين وطردهم من البلاد. فقاد صلاح الدين عدّة حملات ومعارك ضد الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر، وقد تمكن في النهاية من استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس، بعد أن هزم جيش بيت المقدس هزيمة منكرة في معركة حطين. بعد انتصار حطين توجه إلي القدس لفتحها،.ودخل صلاح الدين مدينة القدس في ليلة الإسراء والمعراج يوم 27 رجب سنة 583 ه، الموافق فيه 2 أكتوبر سنة 1187م وخفقت راية السلطان صلاح الدين الصفراء فوق مدينة القدس، ولم يقتل أحدا من سكانها كما فعل الصليبيون عند استيلائهم علي المدينة في الحرب الصليبية الأولي عام 1099م حيث قاموا بقتل جميع أهالي القدس من رجال ونساء وكهول وأطفال والبالغ عددهم نحو سبعين ألفا تم قتلهم في ساحة المسجد الأقصي. كما أمر صلاح الدين بترميم المحراب العمري القديم وبنقل منبر متميز من حلب كان الملك نور الدين محمود بن زنكي أمير دمشق قد أمر قبل وفاته بصنعه ليوضع في المسجد الأقصي بعد فُتح بيت المقدس ، ثم أعاد صلاح الدين فتح كنيسة القيامة. كانت معركة حطين وفتح القدس سببين رئيسيين لخروج الحملة الصليبية الثالثة، حيث حثّ البابا غريغوري الثامن ملوك أوروبا علي شن حملة صليبية جديدة لاستعادة بيت المقدس، فشارك فيها ملكان من أكبر ملوك أوروبا في ذلك الوقت هما ريِتشارد الأول «قلب الأسد» ملك إنگلترا وفيليپ أغسطس ملك فرنسا، اللذان موِّلا الحملة بفرض ضريبة خاصة عُرفت بعشور صلاح الدين بالإنجليزية: )Saladin tithe؛ وبالفرنسية : Dîme saladine) في إنجلترا وأجزاء من فرنسا، ولكن فشلت كل محاولات هذه الحمله في استعاده احتلال مدينه القدس , فلجأ الفريقان بعد ذلك إلي الصلح، وعقدت هدنة في سبتمبر سنة 1192م. ومما يذكر ان صلاح الدين كان مسلمًا متصوفًا، واشتهر بتسامحه ومعاملته الإنسانية لأعدائه فكتب المؤرخون الصليبيون عن بسالته في عدد من المواقف، وحظي صلاح الدين باحترام خصومه لا سيما ملك إنكلترا ريتشارد الأول «قلب الأسد»، فعندما أصيب ريتشارد بالحمي، عرض صلاح الدين الأيوبي عليه خدمات طبيبه الشخصي، وأرسل إليه فاكهة مثلجة. وفي أوروبا الغربية أصبح رمزًا من رموز الفروسية والشجاعة، وورد ذكره في عدد من القصص والأشعار الإنجليزية والفرنسية العائدة لتلك الفترة. وجدير بالذكر أن ڤيلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا عندما زار دمشق توجه إلي مدفن صلاح الدين ووضع باقة زهور جنائزية علي قبره كتب عليها «ملك بلا خوف ولا ملامة، علّم خصومه الفروسية الحقيقية». لمزيد من مقالات د. محمد رضا عوض