فى مشهد مثير للسخرية، ينفعل الرئيس الأمريكى باراك أوباما وهو يصف تدخل روسيا فى سوريا ومساندتها للرئيس بشار الأسد ب»الكارثة»، فى الوقت الذى كانت فيه المقاتلات الأمريكية تسدد ضرباتها الطائشة للمدنيين فى قصفها لمستشفى قندوز بأفغانستان فى حادث ليس الأول من نوعه منذ بدء التدخل العسكرى الأمريكى فى أفغانستان قبل 14 عاما، وسبق تكراره أيضا فى العراق. المثير للدهشة أنه على الرغم من إعلان قادة دول العالم والأممالمتحدة استنكارهم حادث قندوز الذى خلف أكثر من 20 قتيلا، أغلبهم من المدنيين وأفراد الطاقم الطبي، فإن الساسة الأمريكيين تعاملوا بمنتهى الاستخفاف منذ اللحظة الأولى مع هذه الكارثة، بل وكانت وسائل الإعلام الأمريكية فى حالة مخزية بحق، وهى تولى اهتماما بتوجيه نيران انتقاداتها إلى روسيا والصين وسوريا ومصر وغيرها، على أمور وقضايا شديدة التفاهة والافتعال، وبخاصة قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، وفقا لتفسيراتها، وتتجاهل تماما الجريمة التى ارتكبتها بلادهم، على طريقة «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم». فقد علق وزير الدفاع الأمريكى أشتون كارتر مثلا على الحادث بعبارات غامضة قال فيها إن الوضع فى أفغانستان غير واضح ومشوش، رغم أنه كان من المفترض أن يكون على قدر من المسئولية، وأن يعلن على الأقل اعتذارا عما حدث، أو بدء تحقيق فى ملابسات قصف المستشفى، كما طالبت الأممالمتحدة ومنظمة «أطباء بلا حدود»، ولكن هذا لم يحدث، وظهرت الولاياتالمتحدة عقب هذا الحادث فى نفس صورتها المعتادة، تلك الدولة الكبرى التى تعطى لنفسها حق مراقبة الآخرين وانتقاد أفعالهم والتدخل فى شئونهم، دون أن يصاحب ذلك تطبيق مماثل لنفس هذه القيم والمثل على نفسها. هذا بشكل عام، أما فيما يتعلق بالشأن الأفغانى على وجه خاص، فقد وضع القصف الأمريكى لقندوز أوباما والإدارة الأمريكية فى مأزق كبير، بعد أن كشف النقاب عن كثير من نقاط الضعف التى تواجهها الولاياتالمتحدة فى حربها التى لم تنته بأفغانستان. فمن أهم التساؤلات التى طرحها هذا الحادث : لمن تخضع أفغانستان حاليا؟ وما هو الدور الأمريكى الآن؟ وهل ما زالت الولاياتالمتحدة مسيطرة على المشهد هناك، أم أنها طالبان؟ كيف تفسر الولاياتالمتحدة نفسها سقوط مدينة قندوز فى قبضة طالبان؟ علما بأن تلك المدينة لم تكن الأولى التى سيطرت عليها طالبان فى الفترة الأخيرة، وإن كان هجومها على قندوز مفاجأة استراتيجية حقيقية بالنسبة للحكومة الأفغانية وللتواجد العسكرى الأمريكى هناك أيضا؟ هل لا تزال القوات الأمريكية ونظيرتها الأفغانية فى حاجة إلى مزيد من المواجهات والعمليات للقضاء على طالبان، أم أن ذلك يبدو حلما بعيد المنال وهدفا غير واقعي؟ وما هى حدود المساهمات العسكرية الأمريكية فى محاربة خصوم الحكومة الأفغانية؟ كل هذه التساؤلات تبقى بلا إجابة، ولكن الشيء الوحيد الذى تم التيقن منه هو أن حادث قندوز كشف تخبطا أمريكيا، وتواضع مستوى التعاون والتنسيق بين القوات الأمريكية والإدارة الأفغانية الحالية، بدليل أن الجنرال جون كامبل قائد قوات حلف شمال الأطلنطى «الناتو» فى أفغانستان أكد أن الضربة الأمريكية التى أصابت مستشفى قندوز جاءت بناء على طلب القوات الأفغانية التى كانت تتعرض لنيران طالبان، فطلبت دعما جويا من القوات الأمريكية، وهو الأمر الذى نفته منظمة «أطباء بلا حدود». وجدير بالذكر أنه كان من المفترض أن ينفذ أوباما وعده الذى قطعه منذ توليه الرئاسة، وهو سحب جميع القوات الأمريكية من الأراضى الأفغانية، وإنهاء التدخل الأمريكى فى أفغانستان، ولكنه على العكس من ذلك، آعلن الرئيس الأمريكى الإبقاء على خمسة آلاف من قواته فى أفغانستان بعد عام 2016، وهو ما ينهى فعليا خطته بإعادة جنوده بالكامل إلى الولاياتالمتحدة قبل انتهاء فترة رئاسته. وكان حادث قندوز قد أعاد الجدل والخلاف حول بقاء القوات الأمريكية فى أفغانستان من عدمه، فهناك خطة وضع خطوطها العريضة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية مارتن ديمسى تهدف لإبقاء الولاياتالمتحدة على عدد من القواعد العسكرية فقط ليمكن استخدامها فى شن غارات جوية ضد الجماعات التى تمثل تهديدا للولايات المتحدة فى أفغانستان، من خلال استخدام الطائرات بدون طيار والمقاتلات والقوات الأمريكية العاملة فى مجال مكافحة الإرهاب، ولكن المعارضين لهذه الخطة يرون أن هذا لا يكفى لمحاربة طالبان والقضاء عليها، ويذكرنا بغارات التحالف الغربى الوهمية ضد داعش فى سورياوالعراق. ومن جانبه، يؤكد روبيرت بير الخبير الإستراتيجى والضابط السابق فى المخابرات الأمريكية أن خيار ترك قوات أمريكية فى أفغانستان ليس بالقرار السليم، باعتبار أن من سيبقى بأعداد قليلة سيكون هدفا سهلا لهجمات طالبان وغيرها. وبجانب هذه التساؤلات بخصوص الشأن الأفغاني، هل شعرت أمريكا بأى أعراض خاصة بالازدواجية فى المعايير وهى تتحدث عن حماية حقوق الإنسان فى العالم وتقتل فى الوقت نفسه مدنيين بنيران صديقة فى أفغانستان، أم أن مرض الفصام ما زال مسيطرا على الأجواء، سواء على الساحة السياسية أو الإعلامية هناك؟ وإذا كان أوباما قد وصف الغارات الروسية على سوريا بالكارثة، فإن قتل مدنيين فى غارة قندوز «جريمة».